رخاميات البارثينون تقبع رهينة المتحف البريطاني | علي قاسم | صحيفة العرب

  • 5/30/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بناه اليونانيون القدماء لحماية بلادهم من الفرس، وفرط فيه العثمانيون؛ معبد البارثينون الذي تحولت قصته إلى واحدة من أهم القضايا المتعلقة بالتراث والآثار، بعد أن تعرض للتخريب، و”نهب” البريطانيون التماثيل والجداريات الرخامية التي كانت تلتف على جدرانه الأربعة من الخارج، وعرفها العالم باسم رخاميات إلجين. اليوم يتجدد الاهتمام بها، مع إعادة الحكومة اليونانية فتح الأكروبوليس، الموقع الأثري الأكثر استقطابا للزوار في العالم. إن كنتم تظنون أن طالبان والدواعش هم أول من اعتدى على الآثار وهدم التماثيل والجداريات، فأنتم معذورون في ذلك؛ لقد تم التعتيم على إساءات ارتكبها رجال الكنيسة في القرنين الرابع والخامس للميلاد، عندما قاموا بتحطيم ما اعتبروه تماثيل لآلهة ورموزا لعبادات وثنية، حتى الأبنية التي رأوا فيها مكانا تنشط فيه الأرواح الشريرة والشياطين، لم تنج من غضبهم. هذه الفترة المظلمة في التاريخ الأوروبي، سلطت عليها الضوء الكاتبة والمحررة الثقافية في صحيفة تايمز أوف لندن، كاثرين نيكسي، ناقلة صورة حية للرعب الذي سيطر على محبي الفنون وهم يرون بأعينهم روائع فنية لتماثيل تنتمي للعالم القديم تتحطم، من قبل أشخاص أغبياء محدودي الأفق، بحجة حرصهم على التعاليم المسيحية وحمايتها من الشوائب الوثنية. قصة محزنة كاثرين نيكسي: الكنيسة في العصور المظلمة ناهضت التعليم ودمرت الصور والأيقونات كاثرين نيكسي: الكنيسة في العصور المظلمة ناهضت التعليم ودمرت الصور والأيقونات ما اطلعت عليه نيكسي من معلومات في هذا الخصوص كان كافيا لتحريضها على وضع كتاب بعنوان “العصر المظلم: التدمير المسيحي للعالم الكلاسيكي”. وقبل أن تمتهن العمل الصحافي بصفة محررة للشؤون الثقافية، درست كاثرين الكلاسيكيات في جامعة كامبردج في المملكة المتحدة، ودرّست الموضوع لعدة سنوات. وبينما يحتفي العالم بالحضارة المسيحية، ويمدح حمايتها للأعمال الفنية المتميزة، تناولت كاثرين نيكسي في كتابها تشويه الوجوه والأذرع والأعضاء التناسلية للمنحوتات المستخدمة في إفريز معبد البارثينون. وتقول نيكسي إن الكنيسة في العصور المظلمة (من عام 400 إلى 1400) كانت المناهض الرئيسي للتعليم، وقامت بتدمير الصور والأيقونات الدينية والفنية، إضافة إلى تعصبها المقيت. ولأن نيكسي كانت ابنة لراهبة وراهب سابقين، فقد عاشت طفولة مليئة باحترام وتقدير للحضارة المسيحية. لكن، كطالبة أدب كلاسيكي لاحقا، وجدت نفسها في صراع مع الأحكام القديمة التي بدأت قدسيتها تسقط وتزول تدريجيا. كان الرهبان يسحبون بصمت النصوص الوثنية من مخازن المكتبات ويقومون بإتلافها، ودمروا معبد سيرابيس (إله الشفاء عند قدماء المصريين) في الإسكندرية. وفي تلك الفترة اختفت ألاف الكتب من مكتبة المعبد، وشُوهت منحوتة المعبد الخشبية الكبيرة قبل أن تُحرق. وأشار المؤرخ أونابيوس الذي كان شاهدا على ما جرى، إلى أن الكنز الوحيد الذي لم يُسلب من المعبد كان أرضيته. وأصبح يشار إلى رجال الدين المسيحي بأنهم “الذين يحركون ما لا ينبغي تحريكه”. في هذا الكتاب الذي “يشبه المنجنيق” تحاول نيكسي إلقاء الضوء والإثارة على قصة محزنة وهي ثقافة الفكر الواحد والتعصب الديني ورفض العقائد الأخرى، وكان تعاطفها مبهرا مع الخطيب الروماني سيماخوس الذي يقول “نحن نرى نفس النجوم، نتشارك نفس السماء، وعالم واحد يحيط بنا. فلماذا نختلف حول ما يلجأ إليه الإنسان من أنواع الحكمة للبحث عن الحقيقة”. اختبار لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي درس الكلاسيكيات في جامعة أكسفورد وقد يكون معبد البارثينون وما لحق بجدارياته وتماثيله الرخامية، واحدا من أشهر الأمثلة على معلم لحق به التخريب. خلال الحقبة البيزنطية، تم تحويل البارثينون إلى كنيسة، حفر اثنان من الأساقفة (مارينوس وثيودوسيوس) اسميهما على أعمدتها. أما العثمانيون فقد استخدموا أبنية المعبد مخازن للبارود، ليمتلئ بالثقوب إثر هجوم شنه عليه أهل البندقية في القرن السابع عشر. ولكن يبقى الضرر الذي تسبب به اللورد إلجين بين العام 1801 والعام 1805، أبلغ أثر بينها جميعا؛ لم يحدث ذلك في العصور المظلمة، بل حدث في وقت ليس بالبعيد عنا نسبيا، ولم يكن سبب التخريب التهجم على ما تمثله تلك الأعمال، بل كان نتاج أكبر عملية سرقة عرفها التاريخ وجرت بحماية القانون. لنبدأ عرض القصة من النهاية: بعد شهرين من الإغلاق بسبب تفشي وباء كورونا، أعادت اليونان فتح معلم الأكروبوليس، أحد أكثر المواقع الأثرية استقطابا للزوار، والذي يضم خصوصا معبد البارثينون الذائع الصيت. وتجددت في المناسبة مطالب اليونان بإعادة منحوتات انتزعت منه، وهي معروضة حاليا في المتحف البريطاني في لندن، مستفيدة من تركيز العالم على فتح الموقع الأثري. وكانت لندن ترفض دائما إعادة هذه المنحوتات، التي تعرف باسم رخاميات إلجين، بحجة أنها نُقلت من مكانها الأساسي بإذن من القادة العثمانيين في أثينا خلال تلك الحقبة. رخاميات إلجين كتاب يشبه المنجنيق كتاب يشبه المنجنيق وزيرة الثقافة اليونانية، لينا ميندوني، رأت أن “إعادة فتح المواقع الأثرية (…) تشكل مناسبة للجان الدولية الداعمة لإعادة رخاميات البارثينون”، مؤكدة أن الرخاميات تعرضت لعملية “نهب”، مشددة على أن اليونان لم تعترف يوما بملكية المتحف البريطاني لها. وتجسد المنحوتات معارك بين الإغريق ومخلوقات القنطور الأسطورية، كانت قد انتزعت من البارثينون ونُقلت إلى بريطانيا مطلع القرن التاسع عشر على يد الدبلوماسي البريطاني اللورد إلجين. وباتت من القطع الرئيسة المعروضة في المتحف البريطاني. وفي مناسبة اليوم العالمي للثقافة، 21 مايو، بعث الاتحاد الدولي لإعادة توحيد منحوتات البارثينون برسالة إلى وزارة الثقافة اليونانية لمطالبتها بتجديد الضغط المنسق على السلطات البريطانية. وقادت اليونان على مدى 60 عاما تقريبا، حملة لإعادة المنحوتات مفضلة سلوك السبل الدبلوماسية عبر اقتراح وساطة مع اليونسكو، وهو عرض رفضته إدارة المتحف البريطاني. وتثير المحاولات اليونانية لاسترجاع الجداريات والتماثيل الرخامية انعكاسات وأصداء دولية، لاسيما وأن هذه الأعمال ليست المجموعة الأثرية الوحيدة التي ترفض بريطانيا إرجاعها لأصحابها الأصليين، إذ أن هناك آثارا أخرى عديدة تحتفظ بها من دول أخرى مثل الهند، ومصر، والسودان، والعراق وغيرها. وفي مسعاها الدؤوب لم تكتف الحكومة اليونانية بالجهود الدبلوماسية التي بذلت، فقد سبق لليونان أمام تعنت الحكومات البريطانية وإصرارها على الاحتفاظ بهذه الآثار أن لجأت إلى خيارات أخرى، أبرزها الحل القضائي، لإجبار الحكومات البريطانية على إعادة ما نهبته من آثار. وتخشى بريطانيا أن تشجع المطالب اليونانية دولا أخرى على المطالبة باسترجاع كنوز نقلتها إلى متاحفها، خاصة مع بروز علامات تلوح في الأفق على نية بعض الدول التقدم بمثل تلك المطالب. لص ثقافي قطع مسروقة من البارثينون في المتحف البريطاني قطع مسروقة من البارثينون في المتحف البريطاني كان أليني كوبيت، مدير حملة اللجنة البريطانية لإعادة ملكية تماثيل البارثينون، قد قال في السابق إن العمل القانوني لن يجد نفعا “لا أعتقد أن المعركة القضائية سيتم حسمها قبل عشر أو عشرين سنة”. وفعلا، بعد مضي 20 عاما تقريبا، تواجه القضية أبوابا مسدودة. ويؤكد كوبيت أن “القضية في حد ذاتها شديدة التعقيد، فالشخصية الرئيسية فيها وهو اللورد إلجين، يوصف بأمرين متناقضين، فهو لص ثقافي في نظر اليونانيين، ومحب للفنون شُوّهت سمعته زورا في نظر البريطانيين”. للمساعدة في الوصول إلى الإجابة لا بد من التعريف باللورد ألجين، والطريقة التي انتزعت بها الجداريات لتنقل بعد ذلك إلى بريطانيا، وكشف الظروف المحيطة بكل ذلك. كان اللورد إلجين سفيرا لبريطانيا لدى الإمبراطورية العثمانية عام 1799، ويقال إنه قد حصل على تصريح من قبل السلطات العثمانية، يمنحه حق التنقيب والحفر حتى في مناطق البارثينون الأثرية. غير أن الدلائل تشير إلى أنه قام بدفع رشاوى للمسؤولين وممارسة الضغط عليهم للحصول على التصريح، وقام بعد ذلك بتسليم التماثيل إلى الحكومة البريطانية مقابل ديون كانت عليه، وبدورها سلمت الحكومة البريطانية القطع الأثرية للمتحف البريطاني بعد إصدار قانون يحول ملكيتها إلى بريطانيا عرف بقانون مجموعة إلجين الأثرية رقم 1816. إفريز البارثينون في المتحف البريطاني إفريز البارثينون في المتحف البريطاني ويعلق جيفري وايت، احد أعضاء اللجنة البريطانية المشكلة لإعادة ملكية التماثيل على القضية قائلا “يمكن أن يدّعى أيّ شخص أن جميع عناصر وأركان جريمة السرقة متوافرة في عملية نقل التماثيل، ولكن كل هذا حدث منذ زمن بعيد للغاية وحتى قبل أن تظهر الدولة اليونانية وترى النور”. وفي رد فعل يبين مدى إصرار البريطانيين على عدم التخلي عن هذه الآثار، يقول جون هنري مان، أستاذ القانون بجامعة ستانفورد، وهو اختصاصي في دراسة قانون الآثار والفنون وخبير في تاريخ تماثيل لورد إلجين على وجه التحديد، إنه شعر في البداية أن هذه التماثيل ليست من حق البريطانيين، وأنهم قاموا بسرقتها. ومع قراءة المزيد من البحوث أدرك أنه كان مخطئا، وأكد أنه يملك دليلا تاريخيا يبين أن حكومة القسطنطينية وافقت بشكل قانوني على ما قام به إلجين “بالتالي فإن إلجين امتلك التماثيل بشكل قانوني، ومن ثم فإن له الحق في أن يحوّل ملكيتها إلى الحكومة البريطانية”. ومع اقتراب موعد الاحتفالات بالذكرى المئوية الثانية لبدء حرب استقلال اليونان ستكون القضية موضع اختبار لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي درس الكلاسيكيات في جامعة أكسفورد، ووضع نسخة من تمثال بريكليس (السياسي والعسكري الإغريقي) على طاولة عمله. انفراجة صغيرة البارثينون.. هكذا كان يوما البارثينون.. هكذا كان يوما ويستعد رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس لصفقة براغماتية قد تنهي المعركة التاريخية يسمح بموجبها بعرض كنوز لم يسبق عرضها خارج اليونان من قبل، لكي تعرضها لندن مقابل إعادة منحوتات البارثينون إلى أثينا بحلول العام 2021؛ قائلا “نتمنى ونطمح إلى خلق الظروف المناسبة لسفر التراث الثقافي اليوناني حول العالم؛ لنواصل بذلك المساهمة العظيمة والأساسية لبلدنا في تشكيل الحضارة الغربية”. وهذا أول عرض من نوعه تتلقاه لندن منذ سنوات طوال. ويمضي ميتسوتاكيس رئيس الوزراء وزعيم وسط اليمين قائلا “لا ينتمي الأكروبول بالضرورة إلى اليونان حصرا؛ فهو صرح للتراث الثقافي العالمي. ولكن إذا رغبت برؤية ذلك الصرح فعليا بكامل كيانه فعليك أن ترى ما نسميه: منحوتات البارثينون، في موقعها.. إنها قضية جمع شمل الصرح”. وفي خطوة تعدها الغالبية أنها ستُحرِج الجانب البريطاني؛ استجابت فرنسا بحماسة غير متوقعة لاقتراح يوناني أن عليها هي الأخرى إرجاع جزء من إفريز البارثينون إلى اليونان. ويعتبر متحف اللوفر ذلك الجزء من أثمن ممتلكاته، ومن خيرة أعمال النحات والمعماري الإغريقي الشهير فيداس الذي انتدبه بريكليس لتزيين البارثينون. وقدم ميتسوتاكيس الطلب خلال محادثات مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثناء زيارته الرسمية الأولى إلى باريس؛ وكان الرد الإيجابي مدعاة لبهجة الوفد اليوناني؛ لقد وعد الفرنسيون بالنظر في إرجاع التحف الإغريقية النادرة مقابل استعارة برونزيات إغريقية لم تسبق رؤيتها لعرضها في اللوفر. وقال معلقا “يجب أن يكون هناك المزيد من المرونة والحركية؛ كجزء من مفهوم الترويج لثقافتنا الأوروبية المشتركة. فإذا حدث هذا فسيكون أول انفراج صغير”. وهناك أيضا أجزاء من الإفريز تنتشر بين ثمانية متاحف أوروبية أخرى. كورونا أبعد السياح كورونا أبعد السياح وكما هو الحال مع بريطانيا؛ هناك أوجه شبه في كيفية حصول باريس على ما تملكه من أفاريز البارثينون قبل نحو ثلاثة عقود من انطلاق حرب الاستقلال من السيادة العثمانية. كان السفير الفرنسي لدى القسطنطينية بمثابة حالة سبقت اللورد إلجين البريطاني؛ حينما أمر بجمع أكبر كمية ممكنة من المنحوتات.. وهي مهمة أوكلت إلى، لويس فوفيل، قنصل فرنسا الذي أشرف على التنقيب في معلم الأكروبوليس سنة 1788. وإثر هزيمة فرنسا في مصر على يد البحرية البريطانية (بعد نحو عقدٍ من الزمن)؛ شرع إلجين في حملة لإثراء مجموعته الخاصة، مصدرا تعليمات لوكيله على الأرض بحزم المنحوتات.. “في صناديق منفصلة وبصورة لا تُمكّن المراقبين الفضوليين من التعرف عليها”، ونُقلت المنحوتات بالسفن الحربية إلى بريطانيا سنة 1816. وتقول أثينا إنها لم تعد ترغب في الحديث عن ظروف إزالة تلك المنحوتات؛ وهي ظروف بقيت موضع جدل وركزت على مصداقية حصول إلجين على موافقة من السلطات العثمانية لسلب أكثر ما يمكن. بدلا من ذلك تقول الحكومة اليونانية إنها ترغب في التركيز على التبادل؛ كما ترى وزيرة الثقافة، لينا ميندوني “هناك نحو 21 ألف موقع أثري معروف في اليونان، ولدينا عشرة أضعاف ما يمكننا عرضه. هناك شيء ثمين يكتشف كل يوم.. نريد تصدير تلك الأصول الثقافية”. ومن المدهش رؤية كم بقي من إفريز البارثينون حتى اليوم؛ وهو أول عمل فني من القرن الخامس قبل الميلاد صوّر الآلهة جنبا إلى جنب مع شخوص بشرية، مؤسسا لما سيصير أسلوبا جديدا للفن الإغريقي الكلاسيكي الرفيع، وقضية لا تموت.

مشاركة :