في تطور جديد للأحداث التي تشهدها أفغانستان، وبعد يومين من تبادل الأسرى مع الحكومة المحلية، هاجمت حركة طالبان قوات الأمن وأوقعت 14 قتيلا الجمعة في شرقي البلاد في أول هجوم بعد انقضاء هدنة عيد الفطر التي تم التقيد بها فقط من الأحد إلى الثلاثاء. الملاحظ في المشهد الحالي عدم تبني أي طرف آلية جديدة للتعامل مع التطورات الميدانية والسياسية التي تشهدها الساحة الأفغانية وللتعاطي مع الطرف الآخر انطلاقا من الثقة به، ما يلفت إلى أن تسوية الأوضاع بين الحكومة في كابول وطالبان لن تكون سلسة وأن اتفاق الدوحة ليس ضمانة أكيدة لإنهاء حالة الصراع والحرب المستمرة منذ ما يقرب من عقدين. يواصل الطرفان القتال بموازاة تبادل السجناء المنصوص عليه باتفاق الدوحة في فبراير الماضي، حيث تواجه طالبان تحديات داخلية معقدة تدفعها إلى مواصلة نهج العنف وفق حسابات قادتها لاعتبارات تتعلق بسبل تعزيز موقعها بمشهد السلطة، وبخطط تعاملها مع مساعي الحركات الجهادية الأخرى المنافسة والحد من نفوذها. تناقض سلوك طالبان بين التعاطي مع بنود اتفاق الدوحة ومباشرة عملية تبادل السجناء، في حين تنفذ هجمات حسب أوضاع الحركة العسكرية وميزان القوى المتباين من منطقة إلى أخرى في أفغانستان، ما يشير إلى استراتيجية تهدف إلى تحقيق معادلة صفرية على المدى البعيد، تمكن طالبان من أن تحل محل الحكومة الحالية كليا بعد مواصلة إنهاكها بواسطة حروب إغارة كلما تيسر لها ذلك. تدرك الحركة أنها قادرة على إقصاء الحكومة المعترف بها دوليا، وأن موازين القوة ومساحات السيطرة والنفوذ تميل إلى صالحها، وتدفع باتجاه تمديد السيطرة وإحكامها، مستغلة حالة الإحباط التي شاعت بين أغلب الأفغانيين من جراء الفساد المستشري في أوصال الحكومة، وتردي مستوى المعيشة وانتشار الفقر والمرض والبطالة. سيطرة فعلية طالبان تملك الأسبقية على الحكومة الأفغانية طالبان تملك الأسبقية على الحكومة الأفغانية تتعامل طالبان من منطلق هيمنتها فعليا على الكثير من المناطق حتى تلك التي تتبع إداريا الحكومة الأفغانية، فالحركة هي من تجمع الضرائب وتقدم المساعدات والخدمات وتفصل في النزاعات وتحفظ الأمن وتحرس الممتلكات الخاصة بكثير من المناطق بالريف والمدن التي تخضع ظاهريا للحكومة. علاوة على إدارتها عبر جيش من الموظفين المدنيين للمناطق الشاسعة التي تخضع لنفوذها، ما يشعرها بأن ما يفصل بينها وبين السيطرة الفعلية على غالبية المساحة الكلية لأفغانستان هو فقط حسم المعركة العسكرية لصالحها. تشجع خارطة النفوذ الإداري لطالبان التي تسيطر على مساحات واسعة في المدن والريف الأفغاني وصولا إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة الدولة، فضلا عن كسب ولاء الأفغان المحبطين من استشراء الفساد وتردي مستوى المعيشة، على مواصلتها شن الهجمات لتقويض السيطرة الأمنية للحكومة. تمهد الحركة من خلال تبنيها مساري العنف والمراوغة السياسية لما يمكنها لاحقا من قلب الطاولة وتغيير المعادلات وفق تصورها الخاص للملفين السياسي والأمني، وتنفيذ خططها المتعلقة بفرض قواعدها الخاصة على الحياة المدنية الأفغانية. وتراوح بين تنفيذ العمليات المسلحة ضد الدولة والاستيلاء على مواردها وإعادة توجيهها لتحقيق أهدافها من جهة، وتعويض شعبيتها التي انهارت من جراء الوحشية التي اتسم بها حكمها من 1996 إلى 2001، عندما طبقت أقسى سياسات القمع والتنكيل بحق المدنيين وضد المرأة الأفغانية، عبر ملء فراغ الحكومة العاجزة إداريا وتقديم الخدمات بهدف الفوز بالتأييد الشعبي كسلطة قادمة. تتوخى الحركة إثبات عدم نجاعة المقاربة الأميركية بشأن الشراكة السياسية والأمنية بين الحركة والحكومة من خلال إضفاء شكوك عديدة تجاه مدى قدرة القوات الحكومية على المساهمة في الجهود التي سوف تبذل من أجل ضبط الأوضاع الأمنية، فارضة معادلة أمنية مختلفة لتأكيد انفرادها بالإمساك بشؤون الملف الأمني. لا يمكن فصل حرص طالبان على مواصلة القتال ضد الحكومة المحلية عن التحديات التي تواجهها من جهة، وسعي الحركات الجهادية المنافسة إلى تكريس الانقسام داخلها بشكل قد يؤدي إلى إضعافها وربما تفككها في النهاية من جهة ثانية. كي تتفادى طالبان تبعات توقيع الاتفاق مع واشنطن وتداعياته على مكانتها في الأوساط الجهادية وتحمي صفها الداخلي من الانشقاقات، تريد ترسيخ قناعة مفادها أنها هي من فرضت على واشنطن الانسحاب ومن أخضعتها لشرطها الرئيسي لإتمام توقيع الاتفاق عندما رفضت شرط واشنطن، وهو وقف إطلاق النار، مستمرة في تنفيذ هجماتها حتى قبل ساعات من توقيع الاتفاقية. وتسعى طالبان لتكرار صراعها المحلي مع الحكومة الأفغانية عبر مواصلة القتال حتى النهاية، لتحقيق أهدافها في السلطة، وحرمان منافسيها الجهاديين من فرضية تشكيل تكتل أيديولوجي ضدها مبني على دعايات تخوينها ووصمها بالخيانة واتهامها بتقديم تنازلات والقبول بالمفاهيم الغربية الكفرية كالديمقراطية والعلمانية. رسائل باتجاهات مختلفة Thumbnail تحمل مواصلة طالبان القتال رسائل مفادها أنها لا تزال في ميادين القتال ولم تضع سلاحها ولم ترض بالتنازلات أو تغير قناعاتها الأيديولوجية، وهي الدعاية التي يروجها داعش ضد الحركة لتسهيل استقطاب عناصر متشددة موالية لها. يضاعف من حرص طالبان على التمسك بهذا الخط بالتوازي مع مناوراتها الدبلوماسية إطلاق داعش استراتيجيته الجديدة ومنهج تعامله مع أطراف الصراع العالمي داخل البؤر الاستراتيجية الرئيسية، ضمن كلمة صوتية للناطق باسم التنظيم أبوحمزة القرشي، أذاعتها قناة الفرقان المخصصة لبيانات قيادات التنظيم الجهادي الخميس الثامن والعشرين من مايو تحت عنوان “وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار”. احتلت أفغانستان مكانة ضمن خطاب داعش المؤسس للمرحلة المقبلة مستغلا التحولات المتوقعة التي سيشهدها العالم بعد تفشي فايروس كورونا، ما يمنح التنظيم فرصا أعظم وفق بيان القرشي مما شهده هو وأنصاره قبل عقد من الزمان. وضع تنظيم داعش نفسه على لسان الناطق باسمه كممثل عقائدي أوحد لمسلمي العالم لرفع راية الجهاد العالمي وخوض الحرب التي لن تنتهي إلا بنهاية الكون ضد الديمقراطيات والحريات، مشيرا إلى أفغانستان كمركز لهذا الصراع ومنوها بهجمات فرع داعش في أفغانستان (ولاية خراسان) التي تهز مضاجع الصليبيين والمرتدين، متهما القاعدة وطالبان بالردة والخذلان والوقوع في ضرب من الشرك والكفر. تدرك طالبان مغبة انقطاعها عن القتال والانخراط في تسوية تقود إلى تقاسم السلطة مع الحكومة، حيث ينسج داعش خيوط صعوده في الساحة لتسيد خط الجهاد على وقع روايات مغادرة طالبان والقاعدة للبيت الجهادي. تجري عملية استقطاب عناصر طالبان المتشددة إلى صفوف داعش بالتوازي مع تشكيل تكتل جهادي مناهض للحركة الأفغانية يضم داعش وشبكة حقاني المتشددة التي تتمركز في المنطقة الحدودية بين باكستان وأفغانستان، حيث تجمعهما خصومة طالبان ويشتركان في اعتناق الأيديولوجية الأممية التي تتجاوز الحدود الأفغانية. يوظف داعش في أفغانستان مخيالا مقدسا مشابها لما بدأ به نموذج دولته في العراق، مستندا إلى نصوص دينية تحتفي بهذه المنطقة بوصفها منطلق تجمع المؤمنين من الطائفة المنصورة رافعين راياتهم السوداء للزحف باتجاه بيت المقدس، كالحديث المنسوب إلى النبي “إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان فأتوها ولو حبوا على الثلج”، والحديث الآخر “تخرج من خراسان رايات سود فلا يردها شيء حتى تنصب بإيلياء القدس”. يعكس إمعان حركة طالبان في التمسك بمواصلة القتال حتى في ظل تنفيذ بنود الاتفاق المتعلقة بتبادل السجناء مع الحكومة، شدة حرصها على أن تصبح الرقم الأول في المشهد الأمني حفاظا على رقعة الأراضي الشاسعة التي تسيطر عليها، وتمهيدا لإعلان ضم مساحات تقع ظاهريا تحت سيطرة الدولة وتخضع إداريا لنفوذ الحركة. يسيطر عليها الآن هاجس انهيارها من الداخل ومغادرة قسم كبير من أعضائها إلى تنظيمات أكثر تشددا في حال توقفت عن القتال وانصاعت لمقتضيات التسوية السياسية ما يقودها إلى شراكة في السلطة مع حكومة علمانية، في وقت يطور فيه داعش خطابه الدعائي وينقل عناصره من مناطق الأزمات إلى داخل أفغانستان التي يعدها ميدانيا ودينيا لتكون مركز خلافته الجديدة. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :