لم تعد الأعمال الفنية وسيلة للتسلية والترفيه في مصر، بل إحدى الوسائل القوية لتأكيد حضور الدولة، خاصة عندما تحسن استخداما داخليا وخارجيا، وتسهم في تشكيل الوعي في ظل طغيان خطاب معاد يستهدفها. وانتبهت الحكومة المصرية إلى خسارتها الفادحة لمعركة تخوضها مع خصومها وهي مفتقدة لأهم أدوات القوة الناعمة، حيث تتعرّض منذ سنوات لهجمات إعلامية شرسة من قطر وتركيا وجماعة الإخوان، ما دفعها أخيرا إلى العمل على رأب الصدع عبر توظيف متقن للفن. القاهرة- عقب انتهاء شهر رمضان أعلنت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، منتجة مسلسل “الاختيار”، عن إنتاج عدد من الأعمال على الوتيرة ذاتها، لعرضها خلال رمضان المقبل. وأبرزها تجهيز جزء ثان من “الاختيار” لتسليط الضوء على المزيد من بطولات القوات الأمنية المصرية في مواجهة الإرهاب بسيناء، وتجهيز مسلسل استخباراتي تحت عنوان “هجمة مرتدة”، بطولة الفنان المصري أحمد عز والتونسية هند صبري، ويتناول قصة حقيقية، تأليف باهر دويدار، وإخراج أحمد علاء الديب. وبدأ هذا الاتجاه من خلال عرض فيلم “الممر” الذي استهدف الصيف الماضي تخليد البطولات العسكرية المصرية ضد إسرائيل، ثم ألحق مؤخرا بمسلسل “الاختيار” عن مسيرة العقيد أحمد منسي ضابط الصاعقة الذي استشهد في مواجهة حامية مع إرهابيين في سيناء، وحقّق هذا العمل نجاحا مدويا، ووجد تفاعلا شعبيا، وتحوّل إلى ملحمة في مواجهة المتطرفين، وخنجر في ظهر الإخوان. من هناك، سيتم استئناف العمل في مسلسل “القاهرة – كابول” الذي كان من المفترض عرضه في رمضان المنقضي، لكن توقّف تصويره لصعوبات التصوير بسبب فايروس كورونا وحظر السفر. وأعلنت الشركة المنتجة رسميا طرحه في موسم رمضان المقبل، وهو من بطولة طارق لطفي وفتحي عبدالوهاب وخالد الصاوي وحنان مطاوع، وتدور أحداثه حول المؤامرات التي تُحاك ضد مصر والمنطقة العربية، مسلطا الضوء على الأعمال الإرهابية التي وقعت في بعض الدول العربية. السيد شبل: الفن سلاح مركزي وقت المعارك يستخدمه العالم كله السيد شبل: الفن سلاح مركزي وقت المعارك يستخدمه العالم كله وتعكس أدوار الثلاثي (لطفي وعبدالوهاب والصاوي) شخصيات، الإرهابي الذي يتعاون مع عدد من التنظيمات المتطرفة، ويتصدّى ضابط الشرطة، وينقل الإعلامي الصورة، وهو من تأليف عبدالرحيم كمال وإخراج حسام علي. وأعلن أنه جرى التعاقد مع الكاتب الشهير وحيد حامد لتقديم الجزء الثالث من مسلسل “الجماعة”، ويتناول الجانب الدموي لجماعة الإخوان وتصاعده في مصر والوطن العربي في السنوات الأخيرة، بعد أن قدّم الجزآن الأول والثاني جذور العنف وتطوّراته داخلها وألاعيبها. وتواترت معلومات حول عرض فيلم “سري للغاية” وهو فيلم يبدو مصيره غامضا، حيث يتم الإعلان عنه من وقت إلى آخر ثم يتوارى، ويتناول الأحداث السياسية التي وقعت في مصر منذ ثورة 25 يناير 2011 وكواليس تنحي الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، وحتى قيام ثورة 30 يونيو 2013 وهي الفترة الحسّاسة التي لم يقترب أحد من كواليسها حتى الآن. وتظل أنباء عرضه غير مؤكّدة، فما زال الفيلم مجمدا في الأدراج، وينتظر البتّ فيه من قبل جهات سيادية مختصة، وهل سيخرج قريبا إلى النور أم لا؟ وهو من بطولة أحمد السقا الذي يقوم فيه بدور الرئيس عبدالفتاح السيسي. وكتب الفيلم وحيد حامد، تحت اسم “أيام الثورة والغضب”، إلاّ أن الكاتب الشهير كشف في حديث سابق لـ”العرب” أنه لم يكتب “سري للغاية”، كما لو كان يتنصّل أو يتبّرأ من العمل، ربما بفعل تدخلات أو تعديلات جرت على السيناريو دون علمه. وتسعى الحكومة المصرية إلى تعريف الرأي العام بتفاصيل الأوضاع السياسية الخافية عنه، عبر أعمال فنية تحمل بين طياتها رسائل فشلت أدواتها التقليدية في التعبير عنها وتوصيلها إلى الجمهور. وتحاول الفترة المقبلة إنتاج المزيد من الأعمال العسكرية للتعريف بالتضحيات التي يقدّمها الجيش، ليس فقط على مستوى المسلسلات التلفزيونية بل أيضا عبر أفلام سينمائية لتغيير الصورة الذهنية عن أحداث ومراحل معينة، وترسيخ وطنيته في الوجدان الشعبي، بوصفه الحامي والحارس الأول للدولة المصرية. مؤيّدون ومعارضون مسلسل "القاهرة – كابول" المبرمج لرمضان 2021 تدور أحداثه حول المؤامرات التي تُحاك ضد مصر والمنطقة العربية مسلسل "القاهرة – كابول" المبرمج لرمضان 2021 تدور أحداثه حول المؤامرات التي تُحاك ضد مصر والمنطقة العربية مع أن هذا الاتجاه يحظى بتأييد رسمي وشعبي كبير، غير أنه لم يسلم من انتقادات، وتساءل البعض عن جدوى تخصيص ميزانيات ضخمة لهذه الأعمال؟ وتستهدف الحكومة من وراء هذه النوعية من الأعمال التأثير في الأجيال الشابة التي تستمد ثقافتها ومعرفتها من شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي التي لا يمكن التحكّم في محتواها، وتنطوي على الكثير من الأكاذيب. يبدو أن الحكومة المصرية لديها أهداف واضحة تكمن في مخاطبة الشباب ورفع الحسّ الوطني عبر عرض نماذج من التضحيات التي يقدّمها الجيش، وهو ما ظهر من خلال إقباله على مشاهدة هذه الأعمال والتأثّر بأبطالها، ويريد هذا التوجه الوصول إلى الجمهور وليس تحقيق الإيرادات، وزيادة نشر الوعي السياسي والثقافي. وشهدت السنوات الأخيرة حملة تشويه متعمّدة ضد الجيش المصري، ركّزت على توجيه رسائلها إلى شريحة كبيرة من الشباب، كي يتمّ شحنه سلبيا ضد المؤسسة العسكرية وأدوارها الوطنية، ما أفضى إلى ما يشبه القطيعة التي بلغت حدّ إطلاق قنوات معادية حملات تدعو الشباب إلى عدم الامتثال للتجنيد الإجباري. ويضع النظام السياسي على عاتقه مهمة تذليل العقبات أمام هذه الأعمال عبر إدارة الشؤون المعنوية التابعة للجيش المصري، فهو المسؤول عن توفير الدعم اللوجستي للأعمال الدرامية، متمثلة في توفير المعلومات اللازمة، وتسهيل مهام التصوير في الأماكن العسكرية، والمعدات الحربية، من سيارات ودبابات وتدريب أفراد العمل وطاقمه كي يكون الأداء واقعيا. ويتشكّك البعض في أن تحقّق تلك الأعمال النجاح والهدف منها على غرار ما حققه “الاختيار” أو “الممر”، لأن لكل منهما ظروف إنتاج خاصة، كما أن الإسراف في هذه الأعمال قد يؤدّي إلى نتائج عكسية. مسلسل "ممالك النار" أحدث دويا لتركيا ومؤيّديها، وسحب البساط من تحت قدميها مقدّما رؤيا مغايرة لسياسة أنقرة التوسعيّة مسلسل "ممالك النار" أحدث دويا لتركيا ومؤيّديها، وسحب البساط من تحت قدميها مقدّما رؤيا مغايرة لسياسة أنقرة التوسعيّة وقال الناقد الفني طارق الشناوي لـ”العرب”، “لا يمكن فرض شيء على مشاعر الناس في الفن خصوصا، وتنجح هذه الأعمال عندما تجيد مخاطبة العواطف والعقل معا، وتنبع قيمة مسلسل مثل ‘الاختيار’ من رهانه على الوجدان وصناعته كحرفة إبداعية، فالوقائع لا تخلو من وثائق، وإذا استطاعت الأعمال المقرّر إنتاجها إعادة هذه الحالة مجدّدا مع أبطال آخرين سوف تحقّق النجاح ذاته”. وأضاف أن نجاح “الاختيار” كان لافتا على المستويين المصري والعربي، وحقّق درجة من التفاعل بين الشاشة والجمهور من كل الأعمار، لأنه جاء بحرفية عالية في الكتابة الدرامية والوثائق التي تؤكّدها، وأسهمت شخصية بطل المسلسل (العقيد أحمد منسي) في هذا النجاح المدوّي، لتعدّد الصفات الإنسانية التي تمتّع بها. وأوضح الشناوي أن أي توجّه سياسي مباشر مصيره الفشل والسقوط، فالأمر ليس خطبة يلقيها شيخ في مسجد، فسرّ النجاح هو التركيز على حياة وبطولات الأشخاص، لأن الأمن القومي له أبعاده ومفاهيمه الواسعة، ووجدان الجمهور يمكن اكتسابه بملحمة وطنية، وأعمال أخرى مختلفة. وضرب الشناوي مثلا بمسلسل “بميت وش” الذي أضحك المصريين والعرب، فمثل هذه الأعمال تعتبر بمثابة قوى ناعمة، فالأمن القومي ليس فقط حماية الجبهة الخارجية والحدود، فوسائله متعدّدة، بينها صناعة أعمال تحقّق البهجة والسعادة وتعزّز حضور الفن المصري في الوجدان العربي. صناعة فنية راسخة يحفل تاريخ الدراما المصرية بعدد من الأعمال التي لعبت على وتر مخاطبة الرأي العام والتوظيف السياسي، منها مسلسل “رأفت الهجان” الذي جرت صناعته في ثمانينات القرن الماضي خلال فترة ساد فيها الإحباط الشارع المصري. واستطاع هذا العمل توحيد المصريين لمشاهدة الإنجاز الذي تحقّق وقتها باختراق الداخل الإسرائيلي، ورفع الروح المعنوية لدى أجهزة ومؤسّسات الدولة والمواطنين. فيلم "الممر" فتح الباب والدراما التلفزيونية أكملت المسيرة فيلم "الممر" فتح الباب والدراما التلفزيونية أكملت المسيرة وأشار مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية خالد عكاشة في تصريح لـ”العرب” إلى أن هناك مجالا واسعا للحرب على الإرهاب ومكافحة التطرّف، من ذلك مشاركة المنظومة الثقافية والفنية، فهي لها دور مؤثر لأنها تصل من أقصر الطرق إلى عقول وأفئدة الجمهور الواسع الذي تحتاجه الدولة طوال الوقت كظهر لها في المعركة الكبرى والمعقّدة ضد الإرهاب. وأكّد عكاشة أن الأعمال الفنية تصل إلى شريحة واسعة من الجمهور، والحال أن المقالات والبرامج والدراسات والأوراق البحثية تمثل إسهامات فكرية مطلوبة. لكن جمهورها محدود ونخبوي، وتظل الأعمال الفنية ببعدها الإبداعي الأكثر التصاقا بالشخوص والنفوس والعقول، فرغم مرور نحو ثلاثين عاما على عرض مسلسل “رأفت الهجان” مثلا، إلاّ أنه ما زال حاضرا في ذهن المواطنين المصريين والعرب وراسخا بكل رسائله. ويظل الإبداع الفني من أشكال الاتصال الإنساني التي تصل إلى المتلقي بطريقة أسرع وتلصق بالوجدان، والأقدر على توصيل الرسائل السياسية. ولعل من أسباب نجاح “الاختيار” تقديمه نماذج إنسانية حية لضباط وجنود يدافعون عن الوطن، ولم يكن هناك تمجيد لأنظمة أو حكومات، ما أكسب العمل المزيد من الصدقية، وأفرد مساحة للتعاطف والارتباط بأبطاله الذين وجدهم المشاهد يشبهونه أو يشبهون أشخاصا حوله. وفي موسم رمضان 2019 حاولت الآلة الإعلامية الإخوانية استخدام الدراما في عمل يحمل إساءة للسلطات والشرطة المصريتين عبر مسلسل “شتاء 2016”، وتم إنتاجه بأموال قطرية وتصويره في تركيا بمشاركة ممثلين مصريين هاربين في إسطنبول، هم هشام عبدالحميد ومحمد شومان وطاقم من المغمورين على مستوى البطولة والكتابة والإخراج، ففشل العمل ولم يحقّق صدى يذكر عند عرضه على شاشة قناة “مكملين”، ولم تتكرّر التجربة بعد هذا الفشل. مسلسل "الجماعة" في جزء ثالث قريبا مسلسل "الجماعة" في جزء ثالث قريبا ويستخدم النظام التركي الدراما لتعزيز المناخ المؤيّد لسياساته التوسعية، وكان الميدان الفني خاليا أمامه، مع غياب المشروع المناهض، لكن الأمر يتبدّل الآن بالتدريج، حيث جرى إنتاج مسلسل “ممالك النار” الذي أحدث دويا لتركيا ومؤيّديها. وأوضح الكاتب والباحث السياسي المصري السيد شبل لـ”العرب” أن الاستهداف الرجعي المعتاد والمتوارث للفن والفنانين والحطّ من صورتهم عبر خطاب متزمّت لن تكون ثمرته سوى تكسيح العرب وإفقادهم قواهم الناعمة لصالح أعدائهم. وثمّن شبل الاتجاه إلى إنتاج المزيد من الأعمال الوطنية الملحمية، قائلا “الفن سلاح مركزي وقت المعارك يستخدمه العالم كله، والسينما في هوليوود زاخرة بالأعمال التي تبرّر حروب الجيش الأميركي، ونحن أولى باستخدام هذا السلاح في خدمة قضايانا العادلة، فالسلاح محايد يتم الحكم عليه بحسب استخدامه”. ورأى السيد شبل أن “الاختيار” جاء في توقيت مناسب، حيث روى عطش الجمهور للفن الذي يحمل همومه الوطنية، وردود الفعل التي استحسنت تلك التجربة الدرامية ليست قاصرة على مصر وحدها، بل تمتدّ إلى عموم الوطن العربي.
مشاركة :