كيف يظهر لنا حل مسألة معقدة بصورة فجائية شغلت أذهاننا لفترة طويلة؟ كثيراً ما نسمع أن الإلهام يدفع البعض إلى استكشاف علمي، اختراع، أو إبداع فني، أو خطة تنموية سباقة، أو رؤى فكرية. علماء ومفكرون ومبدعون وقادة ملهمون، أمثال غاندي ورسالة التغير السلمي، والمغفور له الشيخ زايد، طيب الله ثراه، في تحديه للصحراء، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في صناعة الأمل، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في التخطيط للمستقبل. متى وكيف يحدث الإلهام؟ يشار إليه اصطلاحاً في المعجم الوسيط «مَا يُلْقِي بِهِ اللَّهُ فِي نَفْسِ عِبَادِهِ ويطمئن له القلب». يعرف د. محمد جاسم بو حجي في كتابه «البحث عن الملهمين» الإلهام هو فكرة تحث فيها الجوارح الإنسان على فعل شيء ما. ومن خلال التعلم المستمر يستطيع الفرد استكشاف قدراته برفع مكامن الوعي. الإلهام عام في النفس البشرية، كل إنسان تنتابه لحظات إلهامية، وليس كما يدعي البعض بأن الله يلهم به البعض! قال الله تعالى في سورة الشمس: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»، أي ألهم النفس معرفة فطرية بالقوانين الأخلاقية التي تحكم الطبيعة البشرية، وفي حال فجُرت تقوم النفس بتلقاء ذاتها بمحاسبتها وتطهيرها حتى تتمكن من استقبال الإلهام الالهي. ينجذب الإلهام إلى حياة الفرد، إذا انشغل العقل الواعي بالأفكار وبحل مسائل شائكة، وليس بالأشخاص ولا بالأحداث. إذا اندفع الفرد إلى البحث في فكرة ما والتدبر بأمرها معظم الوقت، تخزن في العقل الباطن الذي يحاول جاهداً حل المسألة. يشير د. علي الوردي في كتابه «أسرار سيكولوجية» بأن العقل الباطن هو مخزن الرغبات المكبوتة، وتبقى محبوسة لسيطرة العقل الواعي عليها. إذا تخدر العقل الواعي عن طريق النوم تتفجر تلك الرغبات المكبوتة على شكل إبداع. لذا نسمع كثيراً بأن الإلهامات تحدث أثناء فترة النوم. فمعظم السيمفونيات التي ألفها بيتهوفن، والألحان التي ابتدعها أبو الحسن عقبة ابن نافع الملقب بـ«زرياب» كانت تملى عليهما على شكل إلهام أثناء خلودهما إلى النوم. وكان زرياب يستلهم الأشعار والألحان عند النوم فكان يدعو جاريتيه لتأخذا عوديهما لتطبيق ما أُلهم عليه. وكذلك الحلم الذي راود إلياس هوو Elias Howe -مخترع ماكينة الخياطة- استلهم من الأدوات التي استخدمت أثناء محاكمته في أفريقيا تصميماً لإبرة الخياطة، والتي ظل يبحث عنها 10 سنوات، والتي أحدث في ما بعد ثورة في صناعة النسيج. أما ابن سينا إذا استصعبت عليه مسألة، فكان يتوضأ، ويصلي وينام، فيستلهم من أحلامه الحلول العالقة. هناك أمثلة لحالات استلهام في اليقظة ومنها، عندما كلف ملك صقلية العالم الفيزيائي أرخميدس بمهمة التأكد من أن تاجه مصنوع من الذهب الخالص، فقد شك الملك بغش الصائغ له ومزجه بالفضة. فقد انشغل أرخميدس بهذه المسألة معظم وقته، وأثناء استحمامه لاحظ ارتفاع منسوب الماء عند انغماسه، فخرج يصيح (أوريكا، أوريكا)، أي وجدتها، كانت هذه اللحظات التأملية بمثابة حل لمعضلة التاج بدراسة كثافته وحجمه بغمره في الماء. إذاً هذه اللحظات كانت إلهاماً حقيقياً حدثت بسبب انشغال عقلهم الدائم بفكرة أو بنشاط علمي بشكل متكرر طوال الوقت. فلا يمكن للشخص العادي أن يكتشف نظرية فيزيائية، أو تلحين مقطوعة موسيقية في منامه أويقظته إلا إذا كان العقل منغمساً فيها. الإلهام ومضة فكرية ولحظية يشعر أو يسمع به الإنسان صوتاً ما يُملي عليه إبداعاته، كالشعر والرسم والموسيقى، الإلهام ليس وليد المصادفة كما يدعي البعض، بل جاء بعد عمل شاق.
مشاركة :