ارتبطت القضية الفلسطينية في أذهان العرب ارتباطاً عاطفياً لم يسبق له مثيل، ولا نظير له في مختلف القضايا العربية الأخرى؛ ذلك لأنّ الأمر يتعلق باحتلال استيطاني، واقتلاع شعب بأكمله، ومحاولات حثيثة لطمس هوية أرض وثقافة وتاريخ، علاوة على العبث بالمكانة الروحية للقدس الشريف التي تمثّل رمزاً مقدساً للبشر أجمعين في أوقات الحرب والسلم. هيمنت فلسطين على الوجدان العربي والمخيلة العربية، والإنسانية، أدباً وشعراً منذ وعد بلفور المشؤوم في العام 1917، حيث أعطى مَن لا يملك لمن لا يستحق، ما أسفر لاحقاً عن إقامة الكيان الصهيوني "إسرائيل" على أرض فلسطين العربية. وما انفكّت القضية الفلسطينية تحرك العواطف، وتستفز الضمائر، وتفجّر قرائح المبدعين، منذ أمير الشعراء أحمد شوقي، مروراً بعلي محمود طه وقصيدته المؤثرة "أخي جاوز الظالمون المدى"، إلى عمر أبوريشة، وسعيد عقل، ونزار قباني، والأخطل الصغير، وإبراهيم طوقان، ومحمود درويش، وجبرا إبراهيم جبرا، وغازي القصيبي، ويوسف عبدالصمد، والمير طارق نصرالدين. وتجلت مشاعر هؤلاء المبدعين في قصائدهم وفي كتاباتهم، انطلاقاً من مسؤوليتهم الأخلاقية تجاه اغتصاب الأرض وسرقة الهوية والثقافة، لقد جاءت كتاباتهم معبّرة بشكل لافت عن هذه المعاناة والإبادة التي ألمّت بفلسطين شعباً وأرضاً وميراثاً رصّعه الأنبياء بالقداسة. وترافق اهتمام التيارات الفكرية والأدبية بفلسطين، مع مواقف سياسية واضحة ترفض احتلال الأراضي العربية تجلت في مواقف الدول العربية، وفي طليعتها المملكة، التي اتخذت مواقف مضيئة وصلبة نصرت الحق العربي، ودافعت عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وتبنت المبادرات لدعم جهود السلام العادل والدائم في مختلف المحافل الدولية، فضلاً عن الدعم السخي للشعب الفلسطيني الذي لم ينقطع، وجاء من دون منّة باعتراف القيادة الفلسطينية نفسها. لقد تبلور الوعي العربي في الأدب والشعر تجاه القضية، بصرف النظر عن مواقف أولئك الذين يركبون بعض الموجات، ويواكبون بعض الاتجاهات التي تساير وتتواطأ مع القوة والعنجهية الاسرائيلية، على حساب الحق والشرعية. كما ذهب بعضهم مثل مروان المعشر في مقاله في "الشرق الأوسط" في فبراير 2020 إلى مقاربة جديدة تدعو الشعب الفلسطيني إلى الاندماج بدولة فلسطين الكبرى، والموافقة على "إعادة مفاتيح الضفة الغربية وقطاع غزة للاحتلال وتحمل مسؤوليته، والمطالبة بمواطنة متساوية كاملة الحقوق في الدولة الواحدة أي إسرائيل"، ولعل مثل هذا الطرح من شأنه أن ينسف فكرة الدولتين، ويلغي كافة القرارات الشرعية الدولية بدءاً من قرار التقسيم 181 والقرارات التي تبعته مثل 194و 228 و 338 وغيرها من القرارات الأخرى التي تثبت الحق الفلسطيني، وتدين الاحتلال، وتدعو لوقف الاستيطان، وتشدّد على حق العودة والتعويض، نعم إنّ هناك دولاً تتاجر بالقضية عبر مفاهيم وعنتريات الممانعة والمقاومة والمواجهة، بينما إسرائيل تتوسع وهم لم يفعلوا شيئاً، ومازالوا يثرثرون ويتشدّقون بالشعارات. كما أنّ مقولة إنّ الفلسطينيين يضيّعون الفرصة تلو الفرصة أمر لا يستقيم مع الوقائع التاريخية؛ فقد قبل الفلسطينيون بالتفاوض في مدريد، وقبلوا بنتائج مفاوضات أوسلو، وشاركوا في كل المؤتمرات التي يُدعى لها لهذا الغرض، ولا أدلّ على ذلك من قبولهم بالمبادرة العربية في العام 2002، إنما يغيب عن أذهان بعضهم أنّ إسرائيل تريد الأرض والسلام، وتصدر عن عقيدة صهيونية بأنّ فلسطين هي أرض الميعاد، وهي الوطن القومي لليهود، وهي تمارس الفصل العنصري، وترفض أية جهود ترمي لقيام دولة على الأراضي المحتلة في العام 1967 وعاصمتها القدس الشريف، ولا تمانع من زج الفلسطينيين في "بانتوستان" كما فعل النظام العنصري في جنوب أفريقيا بالسود عبر خلق Bantustans للحكم والتفرقة العنصرية، إبّان سياسة الأبرثايد المقيتة . وبصرف النظر عما يتم تداوله، فإنّ فلسطين لن تغيب عن وجدان وأذهان الشعراء والأدباء، وستظل تؤجج مشاعرهم، وتتماهى مع وجدانهم، لأنها مسؤولية قومية وأخلاقية وإنسانية، حتى صنع السلام وبنائه على نحو عادل ودائم عبر حل الدولتين الذي يمثل بارقة أمل للتعايش، وبدء عصر سلام جديد مشرق في ربوع المنطقة ككل .
مشاركة :