القرآن الكريم هو المعجزة العظمى والحجة البالغة وشريعة السماء لأهل الأرض، وهو كتاب الله المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أحكمه الله وفصله فأحسن تفصيله وصدق الله العظيم حين قال: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود:1] والقرآن هو كتاب العربية الأكبر، ورمز وحدة العرب الكبرى، وبه اكتسبت لغة العرب بقاءها، وحيويتها، وبه صار العرب أمة واحدة مؤمنة متآلفة القلوب، متحدة اللسان، متشابهة البيان، وانصهرت كل الفوارق في نور الإسلام ولم يبق إلا الاعتزاز بالإسلام والقرآن. وذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) أن القرآن أنزل أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء. ثم أبيح للعرب أن يقرؤه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها، على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغة إلى أخرى للمشقة، ولتسهيل فهم المراد، كل ذلك مع اتفاق المعنى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف. فاقرأوا ما تيسر منه"، وحديث نزول القرآن على سبعة أحرف ورد من رواية جمع كثير من الصحابة، ورواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ويستخلص من ذلك أن القرآن الكريم لو نزل على حرف واحد لشق ذلك على الأمة العربية؛ فقد كانت متعددة اللغات واللهجات، وما يسهل النطق به على البعض لا يسهل على البعض الآخر، وكانت تغلب عليها الأمية، فلا عجب أن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الاستزادة من الحروف حتى بلغت سبعة أحرف. فالغرض من النزول على سبعة أحرف التيسير، ورفع الحرج عن الأمة بالتوسعة في الألفاظ ما دام المعنى واحدا، فقد تعددت لغاتهم وكان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، فجعل الله لهم متسعًا في اللغات بقراءة المعنى الواحد بألفاظ مختلفة. وقد استمر الأمر على هذا حتى كثر فيهم من يقرأ ويكتب، وعادات لغاتهم إلى لسان رسول صلى الله عليه وسلم وهو لسان قريش، ولاسيما بعد أن صارت لقريش السيادة الدينية والدنيوية معًا، وقدروا على النطق بلغة قريش التي هي أعذب اللغات وأسهلها وأطوعها للألسنة، فلم يسعهم أن يقرأوا بخلافها، ولاسيما وقد زالت الضرورة وأصبحت التوسعة في القراءة بالأحرف السبعة مثار اختلاف وتنازع، فقد حدث في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن اجتمع أهل الشام مع أهل العراق في غزوة "أرمينية" وكان قراءاتهم مختلفة فصار يخطئ بعضهم بعضا، ويقول كل منهم: "حرفي الذي اقرأ به خير من حرفك"، فجاء حذيفة بن اليمان إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك المسلمين قبل أن يختلفوا في كتابهم اختلاف اليهود والنصارى، وحدث أيضًا أن كان المعلم يعلم قراءة الرجل، والآخر يعلم قراءة رجل آخر، فصار الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع هذا الخلاف إلى المعلمين، وكاد أن يكفر بعضهم بعضا، فقال عثمان: أأنتم عندي تختلفون؟ فمن نأى من الأمصار كان أشد اختلافًا"، فرأى الخليفة الراشد عثمان بعد مشورة الصحابة وأهل الرأي أن يجمع الناس على حرف واحد... حتى تضيق شقة الخلاف، ويقل التنازع في جمع المصحف، وكتبه على حرف واحد وهو حرف قريش. فقد عهد عثمان إلى زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوا الصحف في مصاحف وقال للرهط القرشيين إذا اختلفتم أنتم وزيد في رسم لفظ من ألفاظ القرآن فاكتبوه بالرسم الذي يوافق لغة قريش، فإنما نزل بلسانهم. وكتبوا المصاحف مرتبة السور على الوجه المعروف اليوم، وأرسل بها إلى الأمصار، وأمر بحرق المصاحف المغايرة للمصاحف العثمانية، فاستوثقت له الأمة بالطاعة، والتزمت القراءة بحرف قريش، وتركت القراءة بالأحرف الستة الباقية، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها من غير جحود منهم لصحتها، حتى درست واندثرت فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بحرف واحد وهو حرف قريش. إذ كانت قريش مع فصاحتها وحسن لغتها ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم. وأصفى كلامهم فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم نبي الرحمة محمد فجعل قريشا من ولاة بيته فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج. ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم وكانت قريش تعلمهم مناسكهم، وتحكم بينهم، ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم وتسميتها أهل الله لأنهم رهط بيته الأدنين وعترته الصالحين.
مشاركة :