جاءتني فتاة مهذبة ومهندمة، وحكت لي عن قصة حب تجمعها بشاب وسيم ذكي، وعلى درجة عالية من الثقافة، وله مركز مرموق في مركز الأبحاث الذي يديره رغم صغر سنه. وقالت لي إنها كانت سعيدة جدا في بداية علاقة الحب هذه، حتى اكتشفت مع الوقت أن خطيبها ينظر إليها دائما من فوق، ينظر إليها نظرة تعالي، ويقول لها باستمرار انه حاصل على درجة الدكتوراة، أما هي فلم تحصل إلا على البكالوريوس فقط. حتى صارت هذه العلاقة عبئا وحملا خانقا ومؤلما بالنسبة لها. وقال لي لست أرى في نظرته المتعالية المتكبرة أي شيء من الحب أو التقدير والاحترام، وكأن العالم كله يجب أن يكون دكاترة ومديرين. أفضل أن ارتبط بشخص أكثر بساطة، حتى وإن كان أقل تعليما أو مركزا علميا أو اجتماعيا، ولكن أكثر حبا واحتراما، فالحب لا ينظر أبدا من فوق، ولا يتعالى ولا يتكبر على من يحب. بعد أن انصرفت الفتاة بقيت أفكر وأتأمل في كلماتها. وتساءلت كيف يكون الحب الحقيقي؟ وما هو الأسلوب الذي عاشه وقدمه يسوع في هذا الصدد؟ فوجدت أن أسلوب يسوع في التعبير على قمة الحب كان بقمة التواضع، وإخلاء وبذل الذات حتى الصليب. لما بلغ بيسوع الحب لتلاميذه إلى المنتهى، إلى اقصى مداه، ماذا فعل؟ قام عن العشاء وأخذ واخذ ماء ومنشفة ووضع نفسه عند أقدامهم ليغسلها (يوحنا 13). في رأي يسوع هذا هو الوضع الذي يعبر عن اقصى مدي للحب. فمن يحب يضع نفسه تحت أقدام من يحب، وضع يسوع نفسه عند أقدامهم لينظر إليهم من الأسفل وليس من الأعلى، من وضع العبد وليس من وضع السيد، وكأنه قلب الآية، وهذا ما شرحه للتلاميذ قائلا: "أنتم تدعونني معلما وسيدا، وحسنا تفعلون لأني هكذا أنا، وإذا كنت أنا السيد والمعلم غسلت أرجلكم، فيجب عليكم أن أنتم أيضا أن يغسل بعضكم أرجل بعض. وأنا أعطيتكم ما تقتدون به، فتعملوا ما عملته لكم" (يوحنا 13: 13 – 16). فالحب الحقيقي لا يهدر الكرامة حتى وإن أهدر الحياة نفسها، فالحياة المقدمة والمبذولة ليس حياة مهدرة بل محفوظة بشكل مختلف، بشكل أفضل، بشكل أبدى، كقول يسوع: "من لا يحمل صليبه كل يوم ويتبعني فلا يستحقني. من حفظ حياته يخسرها، ومن خسر حياته من أجلي يحفظها" (متى 10: 38 – 39، متى 16: 24 – 26). ولما بلغ به الحب مداه للاب، أطاعه حتى الموت على الصليب (فيلبي 2: 8)، هو الذي قال له في بستان الزيتون وعرقه يتصبب على الأرض كقطرات الدم "إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن لا كمشيئتي بل كمشيئتك" (لوقا 22: 41 – 46)، ولما بلغ به الحب للبشرية إلى اقصى عمق له اسلم نفسه بين أيدي الأشرار ليصلبوه ليكون فداء وخلاصا للبشر جميعا. هنا نلمس ونتلمس مع يسوع طريق الحب الحقيقي، التواضع، التخلي، إخلاء وإفراغ الذات، التضحية بالنفس حتى الموت، لذلك قال يسوع: "ليس لاحد حب أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه لأجل أحبائه" (يوحنا 15: 13).خلاصة القول ليس من صفات الحب التعالي والكبرياء، بل الحب الحقيقي هو تضحية وبذل وعطاء بتواضع حقيقي حتى بذل الذات، كما هو أخذ فنحن لا نعطي ونقدم إلا ما سبق وأخذناه واستلمناه من شخص آخر أومن الله، ففاقد الشيء لا يعطيه. فإن لم امتلك شيئا لا أستطيع أن أقدم شيئا، وإن لم امتلك نفسي لا أستطيع أن أقدم أو أبذل نفسي. فلنحترس، إذا، ألا نكون نملك شيئا بل أن تكون الأشياء والأشخاص هي التي تمتلكنا وتحركنا وتفقدنا حريتنا تجاهها. فلنحترس، إذا، ألا نكون نملك أنفسنا بل أشياء وأشخاص آخرين يمتلكوننا ويتحكمون فينا، ويسلبونا حريتنا وإرادتنا وكرامتنا. فنكون مجوفين فارغين من كل كيان حقيقي غني بالله الذي يحيينا ويحررنا ويطلقنا.لذلك فكيان الله كله محبة لأنه كله عطاء. الآب يعطي ذاته كليا للابن، والابن يستلم عطية الآب ويردها كليا للاب. فلا يحتفظ أحد منهما بشيء ولا يمتلك شيء، بل كل شيء في كل منهما هو للآخر مطلقا. كما يقول يسوع "كل ما هو لي فهو للاب وكل ما هو للاب فهو لي" (يوحنا 17: 10)، أنا والآب واحد (يوحنا 10: 30). سر الوحدة هو في سر الشركة في التقبل الكامل والمطلق والعطاء الكامل والمطلق بين الآب والابن، وهذه الحركة الحميمية الكاملة في تبادل الذوات هي الروح القدس.
مشاركة :