محمد الجرّاح.. دبلوماسي الشعر

  • 6/6/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تعبت من السفر ليتج تروفـــي تعبت من العنا وما روم أكثر عشقتج حاسب إنّج دوم توفي وفيتي يوم والباجــي تنـكّر وأنا للحـــــب يرّتــني حتوفـــي وربّ في السما لي يوم قدّر أسافر وأبتعد وأجبر ظروفــــي وأعاند دمع من عيني تحدّر هكذا كان الشاعر الإماراتي الراحل محمد سعيد الجرّاح (1952- 1994)، يدوزن أوتار القلب على إيقاع التعب، وعلى تنهيدة العناء الممتدة إلى حافة المسافة وآخر الاحتمال، قابضاً على الشعر، مثل القابض على الجمر، جمر الهوى الذي يذيب الأبدان ويفتن الأذهان، ويجعل من الذكرى شعلة متوقدة وسط الليالي الباردة التي يسكنها المتألمون دون صوت ولا ضجيج، وبضاعتهم فقط ذلك الأنين المستتر في ثنايا الروح، والصارخ والمحتدم بين أبيات القصيدة ووسط مفرداتها الجريحة، إنها الليالي الباردة التي خبرها الجرّاح وعاينها عن قرب واكتوى بعزلتها أثناء عمله الدبلوماسي في باريس وروما، وكان لهذه «التغريبة» الملموسة والافتراضية أثراً عميقاً في أسلوبه المقترن بالشجن، وفي هيمنة حسّ الانفصال على شعره، ولكن هذا الانفصال الذي صنعته ظروف الغربة وضروراتها، جعله في حالة اتصال دائم مع حنينه الشخصي، اللاهب والمدوّي، كما دفعه هذا الانفصال إلى محاولة ترميم الذات وتعويضها بالسلوى الداخلية والعزاء النفسي، واستبدال الفقد المكرر لرائحة الأرض وعطر الوطن، بالعودة المكررة أيضاً لفردوس الطفولة وجنةّ «الفريج» وطلّة المحبوب في «السكيك» الدافئة والحنونة مثل لمسة الأمهات، ومثل شهقة الموج في بحر قريب. دراسة وعمل ولد محمد سعيد الجرّاح في إمارة عجمان، ودرس فيها حتى المرحلة النهائية التي أكملها في ثانوية العروبة بالشارقة نهاية الستينيات من القرن الماضي، ثم سافر إلى جمهورية مصر العربية ليكمل فيها دراسته ويتخّرج في جامعة حلوان، ثم التحق بالسلك الدبلوماسي والقنصلي بوزارة الخارجية بدرجة سكرتير في العام 1979 م، لينتقل في العام التالي إلى سفارة الدولة في باريس، وتولى خلالها مهام القائم بالأعمال بالنيابة أثناء فترات خلو منصب السفير، ويستمر في باريس حتى عام 1987م، وخلال هذه الفترة تدرّج في السلك الدبلوماسي، فحصل على درجة سكرتير ثانٍ، ثم درجة سكرتير أول في العام 1984، انتقل بعدها إلى ديوان عام الوزارة في العام 1987م وألحق بإدارة الشؤون الأجنبية، ثم ألحق بسفارة الإمارات في روما عام 1988م، تشرف بعدها بتولي مهام القائم بالأعمال بالنيابة فيها حتى عام 1991، وعاد إلى وطنه الإمارات في العام 1992 ليرحل عنا - رحمه الله - في العام 1994 وهو قادم من العاصمة أبوظبي باتجاه مدينته الأثيرة عجمان، وكانت معه أوراق من ضمنها قصيدة لم يكملها تقول كلماتها: ولهان يا بلادي ومشتاق يا فرحتي بيوم التلاقي حنيت لك والخاطر انساق في عالم التذكار شاقي ليجعلنا منغمسين في التفكير حول حجم الاغتراب الذي أحاط بروح شاعرنا، وجعله مثقلاً بهذا الوله الضاري المتشبث بجوارحه، وأملى عليه بالتالي أن يصنع آلاف النوافذ والأبواب في بنائه الشعري كي يكون منفتحاً على الجهات كلها، وعلى الأحلام كلها، قبل أن تلتهمه ظلمة البعد، وحلكة النأي، وعتمة الهجر، فبالنسبة لمبدع مرهف الإحساس، مثل محمد الجرّاح، فإن الكتابة الشعرية تصير هي الملجأ والمرفأ والمأوى وسط هجمة الغربة وعواصفها وارتداداتها المزلزلة، لذلك أنتج شاعرنا مئات القصائد التي تم توثيق بعضها، وما زال الكثير منها رهناً للبحث والمراجعة والنبش والسؤال، حيث إن الأعمال الشعرية للجراح رغم كثرتها وغزارتها لم توثق سوى في ديوان واحد صدر في طبعته الأخيرة بعنوان «وناّس»، وهو عنوان أيضاً لواحدة من أشهر قصائده التي أداها المطرب الكبير الراحل جابر جاسم، وساهم في جمع ديوان «ونّاس»، وأشرف على طباعته شقيقه المهندس خليفة الجراح، وراجعه وحققه الشاعر سعود عبدالله الدوسري، حيث ضمّ الديوان 50 قصيدة في 215 صفحة من القطع المتوسط، منها قصائد اشتهرت ولحنها وغناها عدد من الفنانين الكبار أمثال الموسيقار الإماراتي عيد الفرج، والفنان السعودي الكبير محمد عبده، والفنان السعودي علي عبدالكريم، وقدّم الدوسري في مستهلّ الديوان لمحة عن الأجواء التي أسست للموهبة الشعرية لدى الجرّح، قائلاً: «كانت الآمال أغنية ما زالت أصداؤها تتردد بين إمارة عجمان الهادئة، وهي تخاطب بالشوق أخواتها من الإمارات الأخرى، وكذلك هم يخاطبونها بكل الود والمحبة، كيف لا وهي مرتبطة جغرافياً وتاريخياً، بل ونسباً موثقاً في صحاف التاريخ لا تمحيه الحدود والحواجز». وأضاف: «وكان ذلك الطفل في مقتبل عمره حاله حال أقرانه من أبناء عجمان لا يعرف من الدنيا، إلا اللهو واللعب بين هذه الأزقة والحواري التي شكلت اللبنة الأساسية في تكوين شخصيته كشاعر حمل ذكرياتها معه في حله وترحاله». وحول رحلة الجراح مع الغربة، أوضح الدوسري في مقدمة الديوان أن هذه الرحلة رغم آلامها، إلا أنها بالنسبة للجراح كانت بمثابة محطات شرّفها به الوطن، وينقل لنا هنا عبّارة الجراّح التي قال فيها: «تبقى مشاعري ويبقى حبي وتفكيري في بلدي وأهلي وأصدقائي، ولا أخفي بأنها خلقت مني شاعراً متجولاً بينها، وصنعت في داخلي معاناة ترجمتها عبر أبياتي». يقول محمد الجرّاح في قصيدة «ونّاس» - وهي صيغة لفظية مشتقة من «الأُنس»: ونّاس يا صوت المحبين ونّاس تشفق عليه من علي البعد وتعين هيّجتني بالليل في وقت النعاس ذكرتني بأيام كنا جريبين أنا الذي أهواك يا بهجة الناس وشوقي عليك يزيد وأخافه إبين متوله أبغيك وأصبر على الباس واشره على جفني إذا غضّت العين الريم من وصّاك تسقيني الكاس واسقيتني برضاي يا ترف ليدين رياك يسعدني إذا هب نسناس وياما سعدت وياك والناس لاهين. ونستشعر في هذه القصيدة التي أبدع في توليفها الجرّاح، تلك النزعة الإيقاعية ذات الجرس المتخفّف من الجزالة المقحمة أو الاستعراضية، فهي قصيدة مصاغة بتراتبية تنبعث من عفو الخاطر ورهافة المشاعر والاسترسال الحر لدفق المعاني وانهمار الكلمات في انتشائها اللحظي وفي انسيابها الفطري دون تكلّف أو تقصّد في إيراد أنماط تزيينية فائضة عن حاجة العبارة الشعرية المكثّفة والموجهة إلى لبّ المعنى لا إلى هوامشه وحيثياته. ونستحضر هنا مقولة أبي تمام: «وطول مقام المرء في الحيّ مُخلق لديباجيّته، فاغترب تتجدّد»، وهي المقولة التي تنطبق تماماً على الأسلوب الشعري لمحمد الجراح حيث إن ثمار الغربة ليست كلها مرّة، لأننا نستطعم في شعره الحلاوة والطلاوة التي أضفاها التجديد على طريقة سبكه للعبارة الشعرية، تجديد اختزنه في لاوعيه، وتطوّر خلال مراحل متعاقبة شهدها في أسفاره وتنقلاته بين المدن العربية والحواضر الأوروبية التي امتازت بحداثة ظاهرية طاغية، وبتحولات ثقافية وفكرية قائمة على المغامرة والتجريب، ما كان له في النهاية أثر واضح في مساحة الجرأة والتنوع ومجاراة الواقع التي أسبغت على شعر الجرّاح طابعاً مرناً ومتحرراً من ثقل ولوازم القصيدة النبطية التقليدية في المشهد الشعري المحلي، وفي قصيدة الجراح «بيت التراب» مثال واضح على هذا التحليق الحرّ في فضاء القصيدة الإماراتية النبطية، حيث يقول في هذه القصيدة: شفت العذاب بهجر الأحباب غير السبب ما هوب معروف والآدمي بالطيب ينياب ولكل واحد وقت وظروف يا ونتي والليل ما طاب غير السهر ما شفت مصروف. إلى أن يقول: مغرور تبني بيت بتراب غير التعب ما ظن بتشوف واللي سعى بالشر عيّاب حاسد يبي تفريق لولوف أنا قفّلت بوجهه الباب وانته جعلت الباب مكشوف سيد الغواني منك الأسباب صار السبب واضح ومعروف لكن ظني فيك ما خاب يا سيدي بالروف بالروف. نلاحظ في هذه القصيدة لجوء الجرّاح لمفردات غير متداولة في المعجم الشعري التقليدي، كما في عنوان القصيدة ذاتها «بيت التراب»، وهو تركيب عجيب للدلالة على هشاشة عمل الشخص المغرور الذي لن يجني سوى التعب في بذله لمجهود ضائع ووقت مهدور، كما أن استخدامه لمفردات من تفاصيل الحياة اليومية المحيطة بنا مثل «الباب» وتوظيفها في شعره يدل على رغبة الجراح في الاستعانة بالمرئي والواقعي بدلاً من الركون للصور الشعرية ذات المرجعية الذهنية الثابتة والمتكلسة وغير القادرة على مخاطبة الحاضر بظروفه الجديدة وتغيراته المشهودة. «زوّار» في قصيدة بعنوان «زوّار» يقول الجرّاح: أسمع خطى وأظن زوّار وأتحسبج ييتي إتزورين في موضع تحتي غدى نار وإنتي على هجري تطيعين يا ما بحبج كتمت أسرار والعين يا ما تفضح العين خايف يطول الوقت وأنهار ويبان ما خبّيته سنين. وتبرز في هذه القصيدة جرأة الجرّاح في مخاطبة الذات الأنثوية بشكل مباشر، دون حاجة للترميز والخضوع لشرط متوارث في مخاطبة الحبيبة والمتمثل في إيراد صفة «المذكّر» بدل «المؤنث» كنوع من الالتفاف المقصود على الشكل الظاهري، وصولاً للمعنى الباطني، وهو الحاجز الذي كسره الجرّاح في كثير من قصائده، فكانت الأنثى حاضرة شكلاً وموضوعاً في قصائده، ومن دون مواربة ومداراة وإضمار، ولعلَّ في هذه الجرأة ما يؤكد المساهمة القوية للشاعر محمد الجرّاح في تجديد الشعر النبطي والوصول به إلى آفاق تعبيرية جديدة، ومغايرة، وذات تأثير عميق في الأجيال الشابة التي عاصرت الشاعر محمد الجرّاح، أو تلك التي ظهرت بنزعة تطورية ملحوظة في مراحل لاحقة بعد غيابه. بلال البدور: قدرات الجرّاح متنوعة في مداخلة خص بها «الاتحاد الأسبوعي»، حول شخصية الشاعر محمد الجرّاح، وتجربته الإبداعية وتكوينه الثقافي والمعرفي، قال الأديب بلال البدور رئيس مجلس إدارة ندوة الثقافة والعلوم بدبي: «عندما نتكلم عن الدبلوماسي، الشاعر، الإنسان، نجد أنها أوصاف تختزل شخصية الراحل محمد سعيد الجرّاح؛ لأنك عندما تلتقيه، سواء كنت تعرفه أولا تعرفه، فإن هناك رسولاً يكون بينك وبينه، والمتمثل في ابتسامته المرتسمة دائماً على وجهه، وكان يدخل إلى القلب بمجرد أن تقابله، وكلما زاد وقت وحجم هذا اللقاء، فإنك تتعرف على شخصية تترجم طبيعة أهل إمارة عجمان، المعروفين بالمرح والصدق في المعاملة، والإخلاص في الأخوة والصداقة وحبهم وارتباطهم بالشعر، حيث يكاد يكون في كل بيت بعجمان شاعر». وأضاف البدور: «إن قدرات ومواهب محمد الجرّاح كانت متنوعة ومتعددة، فهو منذ أن كان في المراحل الدراسية قبل الجامعية، بدأ في العزف والغناء إضافة لموهبته الشعرية، وكل هذه الهوايات أضفت عليه الشفافية والحسّ الراقي والرفيع» واستطرد البدور، قائلاً: «عندما جاء شاعرنا إلى القاهرة منتصف السبعينيات، وكنت وقتها أشغل منصب الملحق الثقافي للإمارات هناك، تعرّف على مجتمع أوسع يضم مئات الطلبة الإماراتيين من مختلف المراحل الدراسية، واستطاع الجرّاح أن يصل إليهم كلهم، خاصة أن نادي طلبة الإمارات بالقاهرة كان يقيم احتفالات سنوية، وكان محمد الجراح يشارك فيها مؤدياً بعض قصائده وأغانيه، وكوّن علاقات كثيرة طيبة مع أبناء ذلك الجيل». وأوضح البدور أن تعيين الجرّاح كدبلوماسي في باريس - مدينة الثقافة والنور - ساهم بقوة في تعزيز وعيه الثقافي والشعري، الذي كان مؤسساً ومركّباً منذ البداية على التعامل مع صنوف الفنون المختلفة، وعلى رأسها الشعر، ووصف البدور قصيدة الجرّاح بأنها قصيدة خفيفة ولطيفة، وتكاد تكون بنفسها مغنّاة، فكأنه عندما يكتب القصيدة، يكتبها كأغنية له.وأشار البدور إلى أنه بالرغم مما تتصف به شخصية الجرّاح من مرح، وقدرته على احتواء العالم كله، إلا أنه كان يخفي جانباً آخر في دواخله يتمثل في إحساسه بأنه لن يعمّر طويلاً، وهو التبرير الذي كان يسوقه دائماً لكل من يسأله عن سبب عزوفه عن الزواج، حيث كان يبوح للسائلين عن السبب، قائلاً: إذا تزوجت وأنجبت، فمن سيعتني بأطفالي بعد أن أرحل عنهم. عيد الفرج: مملكته الشعرية ناضجة قال الملحن والموسيقار الإماراتي الكبير عيد الفرج لـ «الاتحاد الأسبوعي»: إن صداقته مع الشاعر الراحل محمد الجرّاح كانت طويلة وممتدة، ووصفها برفقة العمر، وتخللتها الكثير من أوجه التعاون الفني، ومن أهمها تلحينه وغنائه قصيدته «ونّاس» التي أداها لاحقاً المطرب الكبير الراحل جابر جاسم، وكذلك القصيدة الشهيرة بعنوان «تعبت من السفر» التي لحنها وغناها الفرج، وأعجب بها لاحقاً المطربان السعوديان الكبيران محمد عبده، وعلي عبد الكريم، وقاما بأدائها، فذاع صيتها بدول الخليج. وأضاف الفرج أن الجرّاح كان مشاركاً منذ بداياته الفنية والشعرية في النشاط الموسيقي، حيث تعلّم العزف على العود، وعلى آلة الكمان في نهاية الستينيات، ونوّه الفرج بأن الملكة الشعرية لدى الجرّاح شهدت نضجاً ملحوظاً أثناء دراسته الجامعية في جمهورية مصر، وتبلورت بشكل أكبر أثناء عمله في وزارة الخارجية واستقراره في باريس ومن بعدها في روما. ونوّه الفرج بأنه كان يراجع قصائد الجرّاح في حضوره، وكان يختار منها نماذج لتلحينها وأدائها غنائياً بعد ذلك. وأوضح الفرج أن التجديد الذي مارسه الجرّاح في القصيدة المحلية كانت نتاجاً لانفتاحه على الثقافات الأخرى، ووعيه الخاص والمتفرد بجماليات الشعر الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ووصف شخصية الجراح بأنها شخصية قمة في الأخلاق الطيبة والدمثة، وقال: «كان إنساناً اجتماعياً لأبعد الحدود، وخفيف ظل، ومحبوباً من قبل كل من عاشرهم وصادقهم خلال مسيرته الإبداعية والدبلوماسية الثريّة».

مشاركة :