لم تحظ سلسلة رسوم مصورة في أوروبا والعالم بمثل ما حظيت به “مغامرات تان تان” من إثارة للجدال سببتها شهرة ومجد وخلود بلغ حد الأسطورة. تُرى ما سرّ تعلق أجيال متعاقبة بما كان يخوضه فتى أوروبي أشقر، مع كلبه ومرافقيه، من مغامرات في شتى أصقاع الأرض؟ وكيف لسلسلة رسومات تنطلق من قلب أوروبا الاستعمارية آنذاك (بلجيكا 1929)، أن تكون آسرة إلى هذا الحد، ويدمن عليها أبناء ثقافات مختلفة دون أن تحوي نوايا مبيتة؟ بعيدا عن التسلح بنظرية المؤامرة ومنهج التشكيك، فإن “تان تان” تسمح بأكثر من قراءة تنفتح على حقول معرفية شتى، وتشي بطريقة تفكير متمحورة حول عقل أوروبي، يرى ما يريد أن يراه، ضمن عقلية استشراقية تنظر إلى العالم بمنطق “المركز والأطراف”، وتستدرّ الغرائبية (الايكزوتيزم) بنظرة أقرب إلى السياحية.. كيف لا، والبطل يعمل مراسلا صحافيا، ويجوب المناطق الساخنة في العالم رفقة ثقافة أوروبية تتمثل وتتوزع بين التعلق بكلب لطيف ووفي (ميلو)، قبطان يعشق الخمور الجيدة (الكابتن هادوك)، وباحث دائم الشرود (البروفيسور برجل)؟ من صنع الآخر؟ ” تان تان” صحافي شاب، شديد الحماس، عاشق للمغامرة وكثير التجوال في سبيل كشف الحقائق، حل الألغاز المبهمة، ومناصرة القضايا العادلة (حسب وجهة نظر مبتدع الشخصية طبعا). شارل ديغول: منافسي الوحيد في هذا العالم هو تان تان شارل ديغول: منافسي الوحيد في هذا العالم هو تان تان هو بلجيكي حتى النخاع، من حيث الهيئة والمظهر والسلوك، وحتى عقيدته الكاثوليكية التي غالبا ما تختفي وتظهر على شكل تعاليم وقناعات.. بدليل أنه يصنف ضمن حاملي راية النشاط التبشيري، ويحتفي به المؤمنون في كتاباتهم وتدويناتهم. خرج هذا الفتى ذو الغرة الشقراء المميزة التي باتت تعرف باسمه، إلى العالم، في صحيفة “القرن العشرين” البلجيكية، بتاريخ 10 يناير 1929، ومنذ ذلك الحين بيعت ما يقارب 300 مليون نسخة من مغامرات تان تان في مختلف أنحاء العالم، وترجمت إلى جميع اللغات واللهجات، بما فيها العربية التي انفردت بها دار المعارف في القاهرة، لكن سوء الطباعة كان وراء سحب المؤسسة البلجيكية المخولة لترخيصها، حسب زعم إدارتها. هيرجيه، مبتدع الشخصية، لم ينس أن يضفي بعدا إنسانيا لشخصيته كي تتوسع جغرافيا داخل القارة العجوز وتشمل آخرين مثل الكابتن الإنجليزي “هادوك” بمزاجه السيء، عشقه للخمور وجملته الشهيرة “ألف لعنة ولعنة”. هذا بالإضافة إلى المفتش التوأم “دوبون” وما يمتلكانه من سذاجة قاتلة، العالم الفيزيائي السويسري تورنسول الذي يقوده ضعف سمعه إلى مواقف غريبة، والمغنية الإيطالية بيانكا كاستافيور، والتي أثثت للحضور النسائي في السلسلة، وكي لا يتهم العمل بالذكورية أو المسار البلجيكي الفرنكفوني، ذي اللون الأحادي. المشهد الأوروبي اكتمل تقريبا، في هذه السلسلة من الرسومات الموغلة في التفاصيل، وكان لزوما على هيرجيه أن يضيف إليها العنصر الحيواني، فكان الكلب “ميلو” رفيق تان تان الدائم، المخلص الوثاب والوفي الذي غالبا ما يضحي بعظامه لفائدة صاحبه. ألبومات “تان تان” امتدت، وبحسب التسلسل الزمني، من مغامراته في بلاد السوفييت عام 1929 إلى “تان تان والبيكاروس” في منتصف السبعينات ثم غادر هيرجيه الحياة عام 1983 إثر مرض عضال، دون أن يكمل عمله الرابع والعشرين، والذي حمل عنوان “فن الأبجدية” فكأنما الرجل أراد من خلال تلك المسودة أن يؤسس لأبدية من نوع خاص، توثق لملحمة الإنسان من خلال بطل “بلجيكي جدا” أراد أن يكون “إنسانيا جدا”. الرفيق الكامل شخصية "تان تان" توسعت جغرافيا شخصية "تان تان" توسعت جغرافيا تقف خلف هذه المغامرات الآسرة التي تحبس الأنفاس، مغامرة إبداعية لفنان استثنائي، جعلته بلجيكا من أبطالها القوميين، وكرمته بمتحف يحمل اسمه بالقرب من العاصمة بروكسل، وكذلك فعل الاتحاد الأوروبي حين أصدر في يناير 2004 عملة فئة 10 يورو مطبوعة عليها صورة تان تان وكلبه الوفي المعروف “ميلو”.. ويكون بذلك هيرجيه قد دخل التاريخ من أوسع أبوابه. هيرجيه (1907 ـ 1983) مبتدع هذا العالم الساحر في شخصية “تان تان”، لا يمكن إلا أن يكون روائيا من الطراز الرفيع، ذلك أنه لم يكن رساما منفذا لما كتبه غيره. إنه أشبه بأولئك الذين ينتمون إلى موجة سينما المؤلف، والتي نظّر إليها ألكسندر استروك بقوله “السينما قلم”.. كذلك كانت الريشة في يد هيرجيه، قلما يغوص في التفاصيل ويختار أدق الوضعيات وأكثرها إثارة وإدهاشا. ألكسندر استروك: الريشة في يد هيرجيه قلم يغوص في التفاصيل ألكسندر استروك: الريشة في يد هيرجيه قلم يغوص في التفاصيل هذه أبرز ملامح وميزات المدرسة الفنية البلجيكية التي تعتمد الواقعية عبر أسلوب الخط الواضح في الغرافيك، وتبيان ردات الفعل البشرية، والتي تختلف عن المدرسة الأميركية المتخمة بأبطالها الخارقين، غير المهتمين لأي تفصيل داخلي. كان هيرجيه روائيا بريشة رسام، كما أنه كان شديد الدقة والحساسية لكل تفصيل، سواء تعلق ذلك بالأزياء أو الوجوه أو الشوارع والأمكنة. الأمر الذي دفع كاتبا متخصصا في “التانتانية” مثل مايكل فار، يعرض في كتابه “تان تان – الرفيق الكامل”، وبتتبع دراسات الرسام للمواقع والأزياء والأدوات والوسائل والطبائع التي تضمنتها مغامراته، فأرانا الأصول التي استلهم منها رسم الأشخاص والأشياء كالغواصات والسفن والطائرات والمركبات الحربية والمعابد القديمة والتماثيل ووسائل ريادة الفضاء في عصره. أما أكثر ما يجعل “مغامرات تان تان” وثيقة علمية شديدة الدقة والإدهاش، فهو رحلة الصعود إلى القمر، ذلك أنه سبق رائد الفضاء الأميركي ارميسترونغ، بسنوات، قبل أن تحط أقدامه على القمر بل وقيل إن الأخير كان مولعا في مراهقته بما كتبه “الرائد هيرجيه”. كان صاحب هذه المغامرات الشيقة مطلعا، بلا شك، على عباقرة قصص الخيال العلمي، من أمثال الإنكليزي هـ.ج. ويلز، والفرنسي جول فيرن، لكنه ذهب أبعد من ذلك، فقد ثبت أن استشار صديقه عالم الفضاء الدكتور بيرنارد هويفلمان، صاحب كتاب “الإنسان بين النجوم” كما عكف على استشارة عالم فضاء آخر هو البروفيسور ألكسندر أنانوف. أما على صعيد توثيق الجغرافيا الطبيعية والبشرية والتاريخية لمغامراته، فقد أدهشنا هيرجيه، في اطلاعه الواسع بعادات الشعوب وتقاليدها، من البلدان الاسكندنافية شمالا إلى القبائل الأفريقية جنوبا كما مغامرته في الكونغو (وهو ابن البلد المستعمر)، وصولا إلى “معبد الشمس في مصر” و”أرض الذهب الأسود” في الجزيرة العربية، حيث نجده يلم بأدق تفاصيل الحياة وعاداتها لدى أوائل مؤسسي المملكة السعودية وغيرهم من الأقاليم المجاورة. محاكمة ظالمة هيرجيه.. الأساطير تعاش على هذا النحو هيرجيه.. الأساطير تعاش على هذا النحو السؤال الأكثر مكرا واستحقاقا في سلسلة مغامرات تان تان، هو ليس فضيلة التحقق من ثقافات تلك الشعوب التي زارها تان تان مع طاقمه “الأوروبي جدا” بل كيف صوّر وحكم على شخوص تلك الشعوب بأخيارها وأشرارها على حد السواء؟ أين موقع عنصر أسود أو أحمر أو أصفر من “مخلّص أوروبي أبيض”؟ كيف هي الحبكة الروائية وما درجة الذكاء وحسن التدبير بالمقارنة مع “العبقرية الأوروبية” لدى هيرجيه، المفتون بتفوق قارته العجوز، حكمتها وقدرتها على مناصرة القضايا العادلة؟ قد تبدو محاكمة “تان تان” ظالمة بعض الشيء، ونحن على بعد تسعين عاما من إطلالته الأولى، بين حربين عالميتين غيّرتا وجه العالم، لكنهما لم تغيرا ملكة الإدهاش والاندهاش في المخيال البشري الذي بقي تواقا إلى كل ما هو خيّر، حتى وإن دسّ أصحابه السم في الدسم. "مغامرات تان تان" شدت ألباب جميع الفئات العمرية "مغامرات تان تان" شدت ألباب جميع الفئات العمرية يجب أن نعترف بأن تفوق العقل الأوروبي قد كلفه الكثير من الاتهامات، المشروعة منها وغير المشروعة، لكن علينا أن نقرّ بأن واحدا مثل هيرجيه، قد جعلنا نحلم، حتى وإن صحونا على كوابيس. “مغامرات تان تان” شدت ألباب جميع الفئات العمرية، وعلى مختلف مشاربها، وأنا شخصيا، قصدت متحف تان تان عند أول زيارتي لبلجيكا، قبل أن أسأل عن مرابعها الليلية، ذلك أني كنت أود زيارة طفولتي، وتذكّر جميع أصدقائي المهووسين بـ”تان تان”، من بينهم ذلك الطبيب الجراح الذي يصطحب مجلات تان تان إلى جانب غرفة العمليات، ويعيد قراءتها بينما يحضر فريقه للعملية.. هل رأيتم أكثر شغفا من هذا؟ “التانتانيون” في العالم، أسرة واحدة، ومازالوا، إلى الآن يتبادلون المنشورات والنسخ النادرة من بطلهم المفضل عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. إنه الشغف الذي جعلني أطلق على أول كلب اقتنيته اسم “ميلو”.. وكلما لمحت بحارا مخمورا وثرثارا، دعوته “هادوك”. يشمل نادي “التانتانيين” في العالم، ومنذ ما يناهز القرن، شخصيات فرقتها السياسة، وبعثرتها الأهواء والأمزجة، لكن جمعها “تان تان” وشخصياته بمغامراتها التي تجعل العالم يختصر في ألبوم مصور. ومن بين هؤلاء المشاهير، نذكر الزعيم الهندي راجيف غاندي، الروائية الفرنسية فرنسواز ساغان، الدالي لاما، الذي كرم هيرجيه شعبه بمغامرة في التيبت، لكن السلطات الصينية عدلت فيها باستخدام كلمة “التيبت الصينية” أما الرئيس الفرنسي شارل ديغول فقد قال يوما “منافسي الوحيد في هذا العالم هو تان تان”. مغامرات "تان تان".. اختصرت العالم في ألبوم مصور مغامرات "تان تان".. اختصرت العالم في ألبوم مصور ثلاثية “مغامرات تان تان” جمعت بين ستيفن سبيلبرغ مخرج رائعة “أسنان البحر”، وبيتر جاكسون صاحب “ملك الخواتم” في لقاء فني يستمد جذوره من شغف مشترك اسمه تان تان.. ألا يكفي هذا للقول إن هيرجيه قد صنع أسطورة متجددة، وورثها لمن جاء بعده جيلا بعد جيل. يكفي في طفولتنا أن تكون للواحد غرّة نافرة في مقدمة فروة رأسه حتى يلقبه أترابه بـ”تان تان”.. أليست الأساطير تعاش على هذا النحو؟ هذا الفتى البلجيكي النشيط، وهو يتنقل من بلد لآخر من أجل تغطية الأحداث وكشف الألغاز والطلاسم، ليس غريبا عن مراسلي الحرب ومغطي ساحات القتال في أيامنا لا بل صار واقعا معاشا، كان هيرجيه قد استبقه بتسعين عاما، وزاد إليه حسا إنسانيا ووعيا بيئيا لم يتفطن إليه أبناء جيله. الأطرف من كل ذلك أن عوالم تان تان قد انفتحت على ثقافة الكثير من النسخ التي تناولتها، وكانت مطواعة في تعديل بعض الأسماء والتراجم مثل الإنجليزية والعربية التي أكسبتها اللهجة المصرية في مجلة “سمير” نكهة خاصة، قد تحول تان تان في هذه المجلة الصادرة عن دار الهلال إلى “تم تم” وأصبح اسما المخبر التوأم (توميسون وتومسون) “تيك وتاك”. وبينما كان “هادوك” الغاضب يلعن، في الطبعة الإنجليزية، بكلمات مستمدة من طبيعة البحر والأنواء، فإنه اعتاد بالطبعة المصرية أن يلعن على وتيرة مكررة هي “ألف ألف مليون لعنة”.. وبدلا من أن يخاطب خصمه الأسمر قائلا “أيها البريري المتوحش” فإنه أصبح يناديه بالطبعة المصرية بقوله “يا زتونة مدهونة”. كاتب وفنان تبدو محاكمة “تان تان” ظالمة بعض الشيء ونحن على بعد تسعين عاما من إطلالته الأولى بين حربين غيرتا وجه العالم تبدو محاكمة "تان تان" ظالمة بعض الشيء ونحن على بعد تسعين عاما من إطلالته الأولى بين حربين غيرتا وجه العالم هذه الليونة في الترجمة والإعداد لم تكن تفسد للود قضية، لكنها اصطدمت في الوقت ذاته برقابات سياسية وأيديولوجية، أفسدت نكهة السلسلة المصورة، وجعلتها في محل نزاع ومنصة محاكمة لا يستسيغها عشاق تان تان، ولا يتمنونها بالتأكيد. وفي محاضرة المستعرب الفرنسي لوي بلان، منذ سنوات قليلة في القاهرة، بيّن أن مبدع شخصية تان تان لم يكن يقدّم رسوما مصوّرة يمكن وسمها بالاستعمارية، معتبرا أن الأصح هو القول إنه كان ابنا للفترة التي عاش فيها، وامتدّت على طول القرن الماضي الذي جعلته أوروبا قرنا استعماريا بامتياز. وفي رأي الكثير من النقاد فإن هذا الكلام قد يكون قريبا من الصواب في مسألة تحميل سلسلة مصورة، أكثر مما يمكن أن تتحمله من تأويلات، فلماذا مثلا، لا يستخدم الغرب نوعا من المظلومية المعاكسة في تقييمه لبعض الأعمال في التراث الشرقي، ويحكم عليها بأنها معادية للشعوب الأوروبية؟ أجزاء من العالم العربي كانت مسرحا لمغامرات تان تان ورفاقه. حكم عليها بعض المتشددين بالعنصرية والانحياز للفكرة الاستعمارية كما هو الشأن في إحدى مغامرات بطل السلسلة في المغرب أثناء الاستعمار الفرنسي، أو فلسطين قبل الاستيطان اليهودي، لكن هيرجيه، ليس مطلوبا منه أن يكون مناضلا قوميا يعمل لفائدة المصالح العربية.. إنه كاتب وفنان أوروبي لا أكثر ولا أقل. الحقيقة أن ألبومات هيرجيه، بحسب الباحث الفرنسي بلان في محاضرته سابقة الذكر، تمثل جهل الأوروبيين عموما للعرب، وغيرهم من غير الأوروبيين، مضيفا أن الفنان البلجيكي “جعلنا نتعاطف طوال الوقت مع شخصياته غير الأوروبية والتي لم يصوّرها، خلافا للمنطق الأوروبي السائد وقتها، باعتبارها مجموعة من الرعاع غير المتحضّرين”. صفوة القول أن “مغامرات تان تان” عمل فني خالد، لذلك أحبته العامة، واختلفت عليه النخبة.. ومن يفتح اليوم ألبوما لهيرجيه، فسوف ينسى كل المماحكات، ويتفرج عليه بمتعة وانشداد.
مشاركة :