لست متخصصا في الإثنوغرافيا ولا في الفنون، ولا متتبعا أركيولوجيا «علم الآثار»، وهذه المقدمة توطئة ضرورية للتواضع المعرفي الذي يحمله المقال في المقاربة عن سؤال القط العسيري. ولنبدأ من الملابس المسماة «عسيرية» الملونة بالألوان نفسها الموجودة على القط، أهمها «الأحمر، الأصفر، الأخضر» كتطريزات متنوعة للملابس نفسها، من أقصى جبال بلاد الشام شمالا، إلى أقصى جبال اليمن جنوبا، والتي تنتمي إلى تقنيات فن السدو نفسها عند البادية. والسدو فنّ نسائي -أيضا- كما القط تماما، وكل هذا يتقارب مع التطريزات التي تحيط بملابس ملكات الفراعنة بمصر القديمة حول العنق، ولهذا فلا أستسيغ تجنيس الفنون ومنها فن القط، فيصبح «عسيريّا» إلا في حدود ضيقة، باعتبارها امتدادا للانعكاسات الحضارية على اليمن التاريخي عبر 3 آلاف سنة لحضارات أخرى، وهذا ما نحاول مقاربته من خلال كتاب «اليمن في بلاد ملكة سبأ»، الصادر عن معهد العالم العربي في باريس طباعة «دار الأهالي/ دمشق 1999»، ترجمة د. بدر الدين عرودكي ص 49، وتحت عنوان «مصر تبحث عن الطيوب»، ما نصه: «شاركت مصر في تجارة»طريق البخور«الشهيرة على الشاطئ الغربي من بلاد العرب، وقبل كثير من السنين عثر في مصر على تابوت حجري لتاجر من»معين«، توفي خلال رحلة عمل ــ مع نص معيني منقوش على جدرانه، وكان التجار المعينيون يتخذون زوجات لهم في الخارج غالبا، وأحيانا من المصريات». وعليه، فحمل نقوش ما يسمى «القط العسيري» إلى أغوار تاريخية تمتد إلى ما يزيد على 3 آلاف سنة ليس مبالغة، فمن ينظر إلى الأواني الفخارية التي وجدها الأركيولوجيون في المرجع نفسه، وحددوا عمرها في النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، ثم نظر في أيامنا هذه إلى أقرب سوق شعبي يبيع الفخاريات في عموم الجنوب الغربي للجزيرة العربية، سيجدها مصنوعة من المواد نفسها تقريبا، وبالنقوش نفسها، فما زالت التربة نفسها وما زالت الأشكال هي نفسها تقريبا، راجع الصور الموضحة ص 52 من المرجع السابق، إضافة إلى صورة أي تهامي باللبس التقليدي في وقتنا الحالي «إزار ورداء مطرزان، مع إكليل يحوي بعض أنواع النباتات العطرية حول شعر الرأس المنسدل بما يتجاوز شحمة الأذن ويصل إلى الكتفين»، ومقارنتها بصور التماثيل اليمنية وبعض التماثيل الفرعونية. ولهذا، فأنا أعود إلى العلاقة بين حضارة مصر القديمة وحضارة اليمن القديم، ووقوع منطقة عسير بين هذين الفضائين الحضاريين، وأي قراءة ابتسارية تخرج عسير من هذين النطاقين، فهي إما قراءة إقليمية تبجيلية ضيقة «تدغدغ هوى أبناء السلالات التي تختزل تاريخ عسير في حدود لا تتجاوز الجد الرابع لكاتب المقال»، أو قراءة انتقاصية. وكلا القراءتين تعيدان إنتاج الحدث التاريخي نفسه وفق أهداف عصبوية حكاها ابن خلدون في مقدمته، والتي لا علاقة لها بالروح المدنية المتكئة على ازدهار الصناعات والعلوم والفنون. أقصى ما استطعت الوصول إليه بشأن الرسومات، أن المثلث على شكل هرم وفي رأسه ما يشبه السنبلة يسمى «بنات»، كما يشير إلى ذلك بحث الدكتور إيمان أحمد عارف «ص 186»، الصادر عام 2017، بمجلة التصميم الدولية عن طريق الجمعية العلمية للمصممين بعنوان «مواءمة فن نقش الجدار مع البيئة الطبيعية.... دراسة تحليلية بمنطقة عسير...». «وفي ظني»، أن البنات نقطة الالتقاء بين المثلثات، ففي المعاجم بنات الأرض هي المواضع التي تخفى على الراعي، بينما المثلثات الهرمية المتجاورة قد تشير إلى ما يفعله المزارعون عند الحصاد، إذ يقومون بتجميع القصب على شكل هرمي في رُجَز هرمية داخل قطعهم الزراعية، ومن يزُر مناطق جبال تهامة إلى ساحل جيزان خلال الحصاد، يلاحظ تجميع الذرة على شكل هرمي، بعضه أخضر وبعضه للتجفيف، وقد تحول إلى اللون الأصفر «وهنا نلاحظ ألوان المثلثات المتجاورة»، وفي هذا ما فيه من دلالات البركة والخصب داخل البيت، وهو ما كان يتمناه قبل أكثر من 10 آلاف سنة الإنسان القديم، عندما يعدّ أن رسمه للثور صريعا خلال الصيد داخل الكهوف، هو دليل على تحقق هذا الهدف في أيام كثيرة ومتعددة. بالنسبة للمثلث المقلوب «قاعدته للأعلى» الذي يحوي داخله مجموعة مثلثات صغيرة، فهو «ربما» يشير إلى باقة سنابل القمح «راجع صورة باقة سنابل القمح رمز الخصوبة» ص 164 في كتاب «اليمن في بلاد ملكة سبأ» المشار إليه سابقا، وتظهر في الصفحة يد امرأة تتقدم به كقربان. بالنسبة للمربعات، فلم أجد تفسيرا مقنعا بالنسبة لي، سوى آثار طريق الحرير الذي يقودنا من «فن القط» إلى «فن السدو» إلى «فن السجاد» القادم من أذربيجان وبلاد الأناضول، وما في بعض أنواعه القديمة من أشكال هندسية، «السدو، والقط» هم جزء من ديكور المكان «بيت، خيمة» والمتكئ -حسب وجهة نظري- على فن السجاد، وعندما نحكي عن «طريق الحرير» فنحن نشير إلى ما يزيد على 3 آلاف سنة، من تداخل الفنون الرومانية والفارسية والصينية واليونانية والعربية والمصرية. أما بالنسبة لتفسيرات الأشكال الهندسية في السجاد، والتي تأثرت بها النساء في فن السدو، ومنه إلى فن القط، وفق بحث منشور في مجلة الثقافة الشعبية «فصلية علمية متخصصة» رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم وتحت عنوان: «من التراث الإسلامي دلالات الزخارف والنقوش في السجاد اليدوي المعقود» للباحث هايل القنطار، فقد أورد ما يلي: شكل «المعين المسنن: عرف مذ زمن الفراعنة والفرس والآشوريين وهو رمز الأنوثة، وبعض الشعوب تعبر به عن التزاوج بين الجنسين...، وبالنسبة للمثلث: يمثل أحد آلهة السماء في الديانات القديمة، وهو عند المسلمين»درء للعين الحاسدة«ولهذا الغرض كانت النساء تضعنه كحجب في أطواقهن ومناديلهن، جنبا إلى جنب مع حليهن، والمربع يعبر عن الحقيقة الروحية المطلقة، ويعدّه الصوفيون جوهر الحقيقة». ومن خلال تأمل خطوط السدو ومقارنتها بخطوط القط ثم مقارنتها بالسجاد الأذربيجاني -تحديدا- تتجلى لنا حقيقتان: «الأولى: أن الفنون هي حلقة اتصال بين الشعوب المختلفة، كل شعب يتأثر بفنون غيره من الشعوب التي يتصل بها أو يؤثر فيها. والثانية: أن هذا التأثير والتأثر يتفاوت قوة وضعفا حسب الظروف التي يحيا تحتها كل شعب»، ولهذا فإن أبناء الجبال في أي مكان وبأي لغة عندما يقرؤون رواية «بلدي» لرسول حمزاتوف، فسيخبرونك إلى أي حدّ شعروا أن داغستان تكاد أن تكون حكاية قريتهم وجبالهم، ومثلها روايات إبراهيم الكوني عن الصحراء مستعينا بتراثه الطوارقي الأمازيغي، والتي تجعل كل أبناء الصحارى في الأرض يشعرون بأنه ابن صحرائهم وباديتهم، وبهذا المستوى من العمق نكتشف سخف تعصبنا إلى هذا قبيلي وهذا حضري... إلخ، بل نحن «تراب وإلى التراب نعود»، فالسباق سباق نهضة حضارية في دولة حديثة، وليس سباق عصبيات قبلية.
مشاركة :