هذه بواكير عالم مختلف، معالمه ما تزال أقل سطوعا ممّا يجب، إلا أنها تزداد وضوحا كل يوم مع ازدياد حاجة الجميع للجميع. وإذ لا أحد يمكنه أن ينجو منفردا، فإن التضامن الإنساني والاقتصادي هو الحل الوحيد. التذكير ببعض الحقائق مفيد: لا يوجد علاج حتى الآن لوباء كورونا. كما لا يوجد لقاح. وكان يكفي لبضعة مسافرين في بداية الجائحة أن يحولوا الوباء إلى مأساة في عدة بلدان. ولقد أصيب أكثر من 6 ملايين إنسان، وتوفي أكثر من 370 ألفا. ومعدلات الإصابات لم تنخفض، ولا الوفيات تراجعت إلا بحدود ضيقة. ولئن نجحت بعض الدول في الحد من تفشي الوباء، إلا أن الوباء لم ينته بعد. وما أن تعود خطوط السفر لتنقل المصابين فإن الدورة ستعود لتدور من جديد. يمكن للإنسان أن يتخذ احتياطات مشددة. ولكن وسائل تسرب الفايروس كثيرة. فكل شيء تلمسه يمكن أن يكون حاملا له. وقد تغسل كفيك بين كل حين وحين، وتبقى واعيا ومتباعدا، إلا أنك لن تستطيع أن تفعل ذلك على طول الخط. وإذا فعلت، فغيرك، في المنزل، قد لا يفعل. باختصار، كورونا المستجد يتحول إلى قدر، وعلينا أن نحتويه ونتأمل في سبل التعايش معه. لا يقصد هذا القول إحباط أحد. ولكنه يقصد قبول الواقع، ريثما يظهر علاج، ويكشف العالم عن وجه جديد في سياساته وخياراته الاقتصادية. المضار الاقتصادية الراهنة ضخمة أيضا. وإذا تواصلت إجراءات الإغلاق أربعة أشهر أخرى، فإن الاقتصاد العالمي سوف ينهار كليا. وهناك الآن صدام صارخ بين الدوافع الاقتصادية لتخفيف القيود، وبين تحذيرات العلماء من العواقب المنتظرة. وهو ما يعني أن القرار قاس على نحو لا مثيل له. البعض يقول “أن نموت من الجوع، خير من أن نموت بكورونا”، بينما الآخر يقول “أن نموت بكورونا، خير من أن نموت من الجوع”. وعلى “السياسي” أن يوازن بين الخيارات. ولكن هل يمكن للاقتصاد نفسه أن ينجو إذا ما عادت الجائحة لتدور دورة أخرى؟ وهل يمكن للمجتمع أن يتحمل أعداد ضحايا تتجاوز التقديرات المعلنة؟ بل، وهل هناك حد معين لما هو قابل للاحتمال، أو غير قابل للاحتمال؟ هذه الأسئلة قد تبدو صعبة، إلا أن أجوبتها الغامضة يمكن أن تزيد الأمر صعوبة، أو تكشف عن منعطفات غير منظورة حتى الآن. شيء من قبيل “القبول بالواقع” يبدو وكأنه هو المسار الذي تأخذ به أوروبا كلها. فالجائحة التي تفشت كالعاصفة لمجرد التأخر في اتخاذ إجراءات العزل، يمكنها أن تتجدد مع رفع القيود، بينما الإصابات ما تزال تتوالى، ومعدلات التفشي ما تزال عالية. إنقاذ الاقتصاد قد لا يعني بالضرورة إنقاذ المجتمع أو وقف خسارة الأرواح. وهذا الأخير لا يأتي من دون تكاليف اقتصادية في نهاية المطاف. وهو ما يعني أننا ما نزال بحاجة إلى مقاربات مختلفة، وربما إجراءات حماية وتكافل جديدة بين الأفراد وبين الدول في آن معا. لا توجد “سياسة” في الأمر. فهذا واقع يضع الجميع في قارب يجعل الاختلافات السياسية أمرا لا قيمة فيه. وحيث أن العلماء هم طرف القارب الأهم، فإن الأنظار تتجه إليهم أكثر مما تتجه إلى السياسيين. وهذا بحد ذاته منعطف، إذ أخلت الأيديولوجيات مكانها للمختبرات، وصار على العلم، وحده، أن يقدم الحلول للمشكلات الكبرى. والسياسة صار بوسعها أن تنجو، ولكن فقط إذا ما استعانت بالعلم. استدارة كبيرة كهذه، إنما تضع مجتمعات العالم بأسره أمام الحاجة إلى ”تقنيات” سياسية جديدة، يقل فيها الكلام ويكثر فيها الركون إلى العمل. والعمل نفسه يجب أن ينتظم في إطار إنتاجي محدد، أو أن يشق طرقا جديدة لكي يجعل من الاستجابة للتحديات أكثر متانة، أو تملك على الأقل مبررا أفضل من مبررات الأفكار المجردة. “المشتقات المالية”، في حدود عالم الاقتصاد، على سبيل المثال، كانت نوعا من طرائق حديثة في الإدارة الاقتصادية وفرت فرصا كبرى للنمو وحلولا لمشكلات. ولقد جاء الوقت الآن لكي يبحث العلماء عن “مشتقات بيولوجية” تمكنهم من الخروج من الدائرة التقليدية لإنتاج الدواء واللقاحات. أحد أبرز الأمثلة على ذلك، ما بات يُعرف بـ“الزراعة الجزيئية”، التي تراهن على توظيف قوة الطبيعة في استخراج ما قد نحتاج له. والفكرة الأساسية هي أن يتم تعديل جينات بعض الأنواع النباتية، لكي يمكن استخراج منتجات صيدلانية محددة بكميات كبيرة وزهيدة التكاليف، وذلك بما أن الطبيعة “المعدلة” هي التي تنتجها. وفي الواقع، فقد حقق العلماء اختراقات كبيرة في غضون وقت قصير، في تفحص البدائل والإمكانيات. وكان من المدهش أن يحظى وباء واحد بأكثر من 100 مقترح للعلاج تقوم مختبرات في أربع جهات العالم بتجربة مفعولها على المصابين. هذا شيء لم يحصل من قبل. وهو مؤشر كبير على المكانة الاستثنائية التي تحظى بها مختبرات المعرفة. غياب العلاج، كما غياب اللقاح، حتى الآن، يجعل كل نجاح تحقق حتى الآن في مواجهة كورونا، هشا، وقابلا للانتكاس. هذا صحيح. ولكن العلم سوف يغلب في النهاية. وإذ تنحسر الصراعات الأيديولوجية لصالح صراعات المختبرات، أو سباقاتها، فإن الفوز لم يعد ماديا بالضرورة. كل الذين كانوا يأملون بجني الأرباح، يضعونها الآن جانبا. العالم لن يقبل منهم سعيا مثل هذا. وهو ما يفتح الطريق في النهاية إلى عالم مختلف. طبعا، تظل الخشية جديرة بالاعتبار من أن العثور على علاج لكورونا يمكنه أن يعيد، في اليوم التالي، عالم السياسة إلى مجادلاتها التقليدية. ولكن هذا غير صحيح بالضرورة. معالجة الأزمات الاقتصادية نفسها سوف تظل تطلب “مشتقات” علاجية أكثر ثباتا، في عالم أكثر عدلا تجاه بعضه البعض. دون ذلك، لن ينجو أحد. الثمن الذي يدفعه الجميع، ليس كالثمن الذي يدفعه بلد واحد، أو كتلة صغيرة من البلدان. وهو ما يعني أننا نقف حيال عالم، تصنعه المأساة، ويعيد بناءه التضامن.
مشاركة :