د. ياسر الشاعر يكتب: مرقص وحسين روح وقلب الوطن

  • 6/8/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

فيلم أم العروسة هو فيلم مصرى انتج عام 1963 . من إخراج المبدع عاطف سالم عن رواية  للروائى عبد الحميد جودة السحار. أغلبنا شاهدنا هذا الفيلم عشرات المرات وربما أكثر، هذا الفيلم يحمل قيم اجتماعية جميلة مباشرة. تتكلم عن الترابط الأسرى من خلال موظف مصرى يكافح بشرف لتربية أولاده بشكل سليم.. كل هذه القيم الاجتماعية بالتأكيد قيم جميلة محترمة. هذه القيم النبيلة كانت تبث عبر منابر الفن فى أبناء مجتمع الستينات، والتى قاموا من خلالها بتربية أجيال وأجيال تالية، كل هذه القيم احترمها بالفعل بشدة. لكن هناك مشاهد منفصلة متصلة تحمل رسائل غير مباشرة فى هذا الفيلم اعتبرها هى الأهم فى هذا الفيلم، هذه تعرض العلاقة الإنسانية الحميمة بين اثنين من زملاء العمل.. الأول هو: حسين أفندى بطل الفيلم وهو الأب المكافح، والذى قام به بادائه المبدع والجان الأسيق فى السينما المصرية (النجم/ عماد حمدى).  أما الزميل الثانى فهو مرقص افندي  والذى قام بأداء دوره المبدع (اسكندر منسى) طوال المشاهد المشتركة بين الصديقين كان حسين يشكو مشاكله إلى صديقه المخلص الأمين مرقص افندى.. كل هذه المشاكل كانت تدور حول المشاكل المعيشية التى يعانى منها حسين، والتى كان يبثها الى صديقه المخلص وكاتم أسراره مرقص افندى. ولكن هناك مشهد عظيم فى هذا الفيلم أراه أحد أهم الأسلحة الناعمة للفن الهادف. هذا المشهد كان عندما سلم مرقص افندى زميله وصديقه حسين افندى أموالا ليضعها فى خزانة المؤسسة. لتكون عهدة على حسين افندى. فى هذا المشهد قال مرقص افندى لحسين افندى. اتفضل يا سيدى استلم وعد العهدة. ليرد عليه حسين افندى بشكل تلقائى و مباشر. ياراااجل الدار امان. بمعنى ما بيننا هو الثقة و الاخوة و الامانة. هذا المشهد اعتبره مشهد ايقونى فى مشاهد القوة الناعمة للسينما الوطنية المصرية عبر تاريخها. هذا المشهد اخرجه بعبقرية شديدة المخرج عاطف سالم. و سر عبقرية  هذا المشهد وقوة تأثيره يأتى من بساطة و تلقائية الفنانين اصحاب هذا المشهد. اما عن قوة المشهد كسلاح قوة ناعمة  فحدث ولاحرج. فالمشهد يتسرب الى المشاعر و النفس بسلاسة فيختلط بكل سهولة فى النفس و الروح و العقل. ثم نأتى لمجموعة من المشاهد المنفصلة التى تشكل مشهد واحد متصل يظهر قوة العلاقة بين الصديقين اللذان يعملان معًا فى نفس المؤسسة. هذه المشاهد المتصلة كانت أحد مشاهد الختام لهذا الفيلم. هذا المشهد المتصل يبدأ بحيرة الموظف حسين افندى فى كيفية الوفاء بالتزاماته فى اتمام زواج ابنته البكر امام اهل العريس. و الذى بدأ اهله فى الاعتراض على تأخر ابو العروس فى شراء غرفة النوم. و بالتالى التأخر فى اتمام الزواج. و قد برع المخرج ايضًا فى اظهار هم الموظف الاب و معاناته النفسية من تلك الضغوط التى تمارس عليه. و هو درس اخر من الفيلم لمن يغالون فى مصاريف الزواج.  ودرس آخر للعائلات فى تفهم كل طرف لظروف الطرف الآخر. وعدم ممارسة الضغوط التى تؤدى فى النهاية لضغوط رهيبة قد لا يتحملها البعض والتى من الممكن أن تؤدى إلى كوارث. وهو ما حدث بالفعل وأدى بالأب بالفعل لاختلاس مبلغ (مائة وخمسين جنيها)ً و هو مبلغ خرافى بمقايس تلك الأيام. وكانت نيته أن يرد المبلغ عندما تنتهى إجراءات استبدال معاشه والحصول على نفس المبلغ. وهنا نأتى إلى العلاقة الجميلة بين الصديقين مرقص وحسين. فالاب حسين بعد أن اختلس المبلغ من الخزانة كتب خطاب الى صديقه مرقص اخبره فيه بكل شىء طالبًا منه أن يسامحه ويغطى عليه. لاحظ هنا فى الفيلم ان حسين لم يستأمن أحد على ما حدث إلا صديقه الصدوق مرقص افندى بصرف النظر عن اى شىء هو فقط  استجار بالصديق المخلص. نعود لنستكمل مشاهدة المشهد. و نأتى إلى  مشهد الفرح والذى يحمل رسالة اخرى وهو عدم تحمل باقى أفراد الأسرة للمسئولية. فالجميع  طالب الاب بتغطية كل احلامهم  فى حضور الفرح بل و دعوة اصدقائهم بالعشرات بدون اى مراعاة طاقة الأب المادية.  بعدها جاء المشهد الايقونى فى هذا الفيلم أم العروسة. عندما حضر أحد الضباط الى منزل حسين افندى. واستدعاه للنزول للحديث معه. لينزل حسين أفندى بعد أن عبر العبقرى عماد حمدى والمخرج عن مشاعر حسين فى حالة الضياع التى وجد نفسه فيها بعد أن رأى ضابط البوليس. فقد ايقن ان اختلاسه قد انكشف وأنه ضائع لا محالة.  نزل حسين الى الشارع ليجد أن الضابط قد انصرف بعد أن طلب منه مرقص أفندى أن يسامح حسين.  ثم يبدأ مرقص أفندى فى شرح ابعاد الموقف لصديقه حسين. شارحًا له أن الضابط كان ينوى تحرير محضر بسبب تعليق الميكروفون بدون تصريح، ولكن مرقص أفندى استسمحه بأن هذه ليلة مفترجة ( تعبير مصرى أصيل). ثم يبدأ مرقص افندى فى معاتبة صديقه حسين فيما فعله بالاختلاس. موضحًا له انه قام بتغطية الموقف فى سرية تامة و قام بوضع المبلغ فى الخزانة التى بها عهدة حسين افندى. المشهد انتهى و الفرح اقيم و لكن ما يحمله المشهد من رسائل يجب انت نتوقف قليلًا امامها. أولًا: الصديقان تحابا فى الله كل منهم على عقيدته و التى لم يسأل احدهم الاخر عنها طوال احداث الفيلم. فلم يسال احدهم الاخر, لماذا عقيدتك مختلفة عن عقيدتى ؟. بل كان التفاهم فى الانسانيات فقط و العلاقة المحترمة المبنية على الود والاحترام. وهو ما أمرنا الله به تجاه كل من يعيش على ارض الله. فالله سبحانه و تعالى جعلنا  شعوب و قبائل لكى نتعارف لا لكى نتشاحن و نتحارب. بصرف النظر عن العقائد و الجنسيات فالشمس تشرق كل يوم على الجميع بدون استثناء.  فما بالك بمن يجمعهم وطن واحد و تجمعهم نفس الهموم و المشاكل. و يجمعهم نفس الافراح و الذكريات و الدم. و يجمعهم نفس الدم واحد الذى يسيل على نفس التراب ليحمى نفس الارض. الفيلم لم يتكلم فى اى مشهد عن التلاحم الوطنى و لا الوحدة الوطنية. بل عرض المخرج المشاهد بشكل تلقائى، وبالتالى جعلها تترسخ فى اللاوعى بكل سهولة وسلاسة. هذا الأسلوب الغير مباشر والذى تربينا عليه هو من جعلنا ونحن أطفال نشترى من المحل الأفضل بصرف النظر عن اسم صاحبه. وجعلنا نضع معيارا لاصدقائنا بناء على معايير القيم الإنسانية القويمة و ليس على معايير الأسم او مقدار ما يمتلكه الشخص من أموال. ثانيًا: موقف الضابط الذى استخدم روح القانون و ليس القانون الجامد. هنا اصبح الضابط  منفذ القانون الانسان. كم تساوى افساد فرحة اب بزواج ابنته. و بالعكس كم تساوى فرحة نفس الاب عندما نتغاضى عن تطبيق القانون الاصم  و فى المقابل نكون علمنا الشخص بالقانون بطريقة هادئة. هذا هو نموذج لضابط الشرطة (ممثل القانون و منفذه) الذى كانت تعرضه لنا السينما و المسرح و التلفزيون. لقد ترسخ فى ذهنى، وإلى الآن أنى عندما اتعرض لمشكلة أن أذهب فورًا إلى أقرب رجل الشرطة لاسأله ان يدلنى عن الطريق إذا فشلت فى العثور على عنوان ما. لقد ترسخ فى نفسى أن ضابط الشرطة هو الذى وكله الله ليحمى الشعب. هذا  ما رسخته النماذج التى كان يعرضها الفن وقتها. لا زلت اتذكر مشهد ضابط الشرطة فى فيلم ( الخطايا) و موقفه مع عبد الحليم حافظ عندما كان يسير فى طريق الضياع. و لكنه نصحه أن يعود للطريق الصحيح و هو ايضًا استخدم معه روح القانون. بل و تقاسم معه كل ما يمتلكه.  نتذكر جميعا  المشهد الخالد الذى اداه يوسف وهبى فى فيلم ( حياة او موت) و الذى كان يقوم بدور حكمدار العاصمة ( مدير الامن) عندما قال لشخص ما فى الفيلم عاتبه انه كيف يسخرالامن و الاذاعة لانقاذ مواطن واحد.  ليرد عليه الحكمدار: ان وظيفتنا هى انقاذ ارواح المواطنين و المحافظة عليها.  و هو ما حدث  بالفعل فى هذا الفيلم. و الذى تحول النداء الشهير فيه الى احدى الموروثات الشعبية فى حياتنا. ( الى احمد حمدى الكائن فى دير الملاك لا تشرب الدواء. الدواء فيه سم قاتل). ما أكثر المشاهد فى أفلامنا والأعمال الدرامية التى تربينا عليها. التى رسخت قيم الحب و الاحترام لرجال الجيش و الشرطة و الاطباء و باقى فئات المجتمع. حتى ابتلانا الله بصناع فنون شوهوا تلك القيم بتشويه تلك الفئات. عندما قاموا بعرض النماذج المنحرفة  فى نلك الفئات و تسليط الضوء عليها فقط. و القيام بعمل اسقاط لها على باقى افراد تلك الفئات.  فرجال الشرطة و الجيش و المحامين و الاطباء و العلماء و الكتاب والصحقيين والمدرسين.  كلهم منحرفون باستثناء قلة قليلة، وهو عكس الواقع والذ ى اثبتته الأيام والشدائد من عظمة ورقى تلك الفئات. فكم رجل شرطة ضحى بعمره و كم شهيد من رجال الجيش و كم مقاتل من الاطباء و اطقم التمريض اصيبوا او استشهدوا. و كم من المحامين و القضاء وقفوا فى وجه الفساد بل و دفع بعضهم روحه ثمنًا لمبادئه. كم من العلماء حفظوا وطنهم و رفضوا الاغراءات المشبوهة و ظلوا فى خدمة الوطن يعملون بأقل القليل. يا سادة مصر باقية بقيمها ومبادئها السامية و بقوتها العسكرية الغاشمة ضد أى عدو  يفكر فى النيل من شبر واحد من ترابها. وأيضًا مصر قوية جدًا  بقوتها الناعمة المفرطة فى القوة والمتمثلة فى  مفكريها وفنانيها. ومصر باقية عبر الزمن بكل الشعب الوطنى المخلص من  مرقص الى محمد وما بينهما يوسف ويعقوب. مشهد للبداية: ابنى الشاب الصغير. عندما وجدنى اشاهد فيلم (ام العروسة) بشغف شديد. صمم على مشاهدته معى و ترك المحمول من يده طواعية. بل و اندمج فى مشاهدة الفيلم و ظل يسالنى عن المشاهد و يناقشنى فيه. و هذا يدل على ان العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة.

مشاركة :