الصين وأمريكا في ميزان العالم الراهن ...صراع النفعية والبراغماتية (1)

  • 6/11/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

من الحرب التجارية الى معاقبة شركات التقنية الصينية؛ ومن توتر العلاقات بسبب هونغ كونغ الى حرب التصريحات بسبب وباء كورونا؛ ومن منع الطلاب الصينيين من الالتحاق بالجامعات الامريكية، الى تهديد ترامب بقطع العلاقات كلّيا مع الصين. ظلّت العلاقات الصينية الامريكية خلال سنوات حكم ترامب، تتقهقر بسرعة قصوى نحو الخلف، وتحيد شيئا فشيئا عن مسار التعاون نحو ساحة المواجهة. وبدأ الجميع يستشرفون سيناريوهات قاتمة لمستقبل العلاقات بين البلدين في اطار حرب باردة جديدة. وعلى سبيل المثال، نشر أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة يال، أود آرن وستاد، وهو أحد أشهر مؤرخي الحرب الباردة وخبير في الشأن الصيني، في مجلة “الفورين افيرس” الامريكية مقالا، تحدث فيه عن ما يمكن أن تقدمه سياسة الاحتواء التي وضعها الدبلوماسي الامريكي السابق جورج اف كينان ضد الاتحاد السوفيتي، من إلهام لصناع القرار الأمريكيين اليوم في احتواء الصين. فهل نعيش اليوم حربا باردة جديدة؟! وهل تستطيع أمريكا ايقاف تقدم الصين، وحرمانها من تبوء المكانة العالمية التي تتطلّع اليها؟ الحرب الباردة …تاريخ لن يُعيد نفسه نعلم جميعا أن الحرب الباردة، لم تكن مجرّد مواجهة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي. لقد كانت مرحلة تاريخية تهم العالم بأسره. تداخلت فيها أربعة عوامل عالمية رئيسية و معقدة: أولا، وضع أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة انقسام ألمانيا؛ ثانيا، حركات التحرر الوطني وموجات الاستقلال في العالم النامي؛ ثالثا، انتشار الافكار الاشتراكية والوعي العمّالي في أوروبا ومختلف أنحاء العالم؛ ورابعا، رغبة كل من أمريكا والاتحاد السوفيتي في التوسع. وقد أنتج تداخل هذه العوامل الاربعة فيما بينها، ظاهرة التحالف والاصطفاف العالمي، التي قسّمت العالم الى اثنين، بين اليمين واليسار داخل الدولة الواحدة، وبين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي على مستوى السياسة والعلاقات الدولية، بزعامة رأسين متناقضين، هما أمريكا والاتحاد السوفيتي. أما اليوم، فيعيش العالم مرحلة تاريخية مختلفة تماما، فلا الصين تصدر الآيديولوجيا، ولا أمريكا مازالت تقود معسكرا متماسكا من الحلفاء، كما كان عليه الحال ابّان الحرب الباردة. ولادول العالم لها الرغبة أو الاستعاد للاصطفاف وراء هذا أو ذاك. ولذلك فإن محاولة إلباس المواجهة الصينية الامريكية اليوم مفهوم الحرب الباردة الجديدة، تبدو عملية فضفاضة وغير واقعية. إذ أن التوصيف الصحيح لما تعيشه العلاقات بين أكبر اقتصادين عالميين في الوقت الحالي، هو التنافس، سيما المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية. ومايحوّل هذا التنافس الى مواجهة هو “شعور الملاحقة” المتولّد لدى الولايات المتحدة من التقدم السريع للصين. لذلك، فإن عدائها للصين، يبقى قضية شخصية، نابعة من حب التمسك بموقع الريادة والهيمنة العالمية، ولايحتوي على أي قضية عادلة أو أخلاقية تهم بقية دول العالم. نفعية ترامب… حرب باردة من أجل أمريكا فقط نعلم جيدا، أنه في اطار “مخطط مارشال”، قدّمت أمريكا دعما ماليا ضخما من أجل اعادة بناء اقتصاد أوروبا المثخن بجراح الحرب وحلفائها في العالم. وكان ذلك بهدف انعاش اقتصادات حلفائها للحيلولة دون أن يؤدي السخط الاجتماعي الى صعود التيّارات الاشتراكية وتغلغل الفكر الشيوعي. أما اليوم، ومع ادارة ترامب، فعلى النقيض، نجد أمريكا تقوم بـ “سلب” حلفائها، سواء بزيادة التعريفات الجمركية، أو إلزامهم بابرام صفقات الاسلحة المشطّة أو مطالبتهم بدفع نفقات الحماية. وبالتوازي مع ذلك، تسعى ادارة ترامب لتحويل مصلحتها في احتواء الصين الى قضية عالمية. لذلك، فإن الخطاب الشكلي للحرب الباردة يبقى ذو فائدة كبيرة بالنسبة لأمريكا، خاصة على مستوى الرأي العام الدولي. حيث تستغل أمريكا قضايا شينجيانغ وهونغ كونغ وتايوان والشركات المملوكة للدولة، لرسم صورة قاتمة عن الصين، كدولة الاضطهاد الديني وقمع الحرّيات والتهديد الامني لدول للعالم. وتستثير خوف العالم من مستقبل تكون فيه الصين في الصدارة. وفي الحقيقة إن هذا الخطاب الذي أستعمّل تجاه الاتحاد السوفيتي ابّان الحرب الباردة، هو محاولة أمريكية للحصول على تجاوب من الدول الاخرى في تطويق الصين بـ “صفر دولار”. وفي الوقت الذي تتم فيه شيطنة الصين بسبب نظامها الاشتراكي. نرى أمريكا تقبل بدون عُقد على تمتين علاقاتها مع الفيتنام، وفتح صفحة جديدة مع كوريا الشمالية. وهومايعكس بأن الولايات المتحدة لم تعدّ تهتم كثيرا للايديولوجيا، وبأن رغبتها في احتواء الصين، هي محض حسابات شخصية. براغماتية صينية، أكثر تماشيا مع الواقع العالمي تمثل الصين اليوم ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوربي واليابان بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وأكبر شريك تجاري لافريقيا ودول الآسيان. لذلك فإن الصين تعد شريكا لايقل أهمية عن أمريكا بالنسبة لمختلف دول العالم. وهذا يعني بأنه حتى أغلب حلفاء أمريكا لن ينجرّوا بسهولة وراء أمريكا في إطار سياسة احتواء ضد الصين. وأن المصلحة الوطنية ستمثل الأعتبار الرئيسي في التعامل مع الصين. من جهة، تنتهج الصين سياسة براغماتية مرنة، تمكنها من حصر الخلافات مع بعض الدول داخل اطار ضيق، لايؤثر على المشهد العام لعلاقات التعاون مع هذه الدول، مثل الهند واليابان وتركيا. كما يمكنها أن تتوصل الى حلول مرضية للطرفين مع الاتحاد الاوروبي، على غرار الشروط الأمنية الاوروبية لتطوير شبكة الجيل الخامس. وحتى في علاقاتها مع الولايات المتحدة تبدو الصين على استعداد للتفاوض والتجاوب والتنازل. ومن جهة ثانية، لاتعمل الصين اليوم على تصدير الايديولوجيا، بل تبدو أكثر تحمّسا من الولايات المتحدة في الدفاع عن حرية التجارة والعولمة، القيم التي دافعت عنها أمريكا باسم العالم الحرّ أثناء الحرب الباردة. ولذلك، سيصعب على أمريكا اعادة انتاج مناخ الحرب الباردة من جديد وتعبئة حلفائها لاحتواء الصين. وكما يقول هيراقليطس، “انك لاتنزل الى نفس النهر مرّتين”، فالواقع حتى وإن بدا في الظاهر هو نفسه، لكنه في الحقيقة يتغير باستمرار. لقد طوى العالم صفحة الحرب الباردة دون رجعة. واليوم، تكاد أمريكا تكون القوة الوحيدة المعنية بشكل مباشر باحتواء الصين. وفي ظل الواقع العالمي الحالي، فإن مواصلة الصين انتهاج سياساتها البراغماتية والمرنة في العلاقات الخارجية، سيجعل من الصعب على أمريكا تحقيق اصطفاف دولي أو اقليمي ضدها، حتى بعد فترة حكم ترامب. لكن في ظل عدم تكافؤ قوة التأثير في الرأي العالم الدولي بين الصين والعالم الغربي، فإن الصين من المرجّح أن تواجه المزيد من ضغوط الرأي العام. ورغم أن الحرب الباردة لن تعود مجدّدا، لكن توتر العلاقات الصينية الأمريكية، يبقى مدعاة للقلق. لأن المواجهة الامريكية السوفيتية، كانت لدّيها العديد من المُنفسات، عبر حروب الوكالة وصراعات العالم الثالث. أما المواجهة الصينية الامريكية، فهي مباشرة وبدون منفّسات. لذلك، والى جانب ضبط النفس من الجانبين، فإن الشركاء الرئيسيين في أوروبا وآسيا، يجب أن يعملوا أيضا من أجل علاقات مستقرة بين أكبر اقتصادين عالميين.

مشاركة :