يُعدُّ الحوار من أنجع وسائل تواصل البشر بعضهم مع بعض، وكثير من الإشكالات والخلافات الملتهبة بين الناس إنما يُغذّيها غياب الحوار الهادف المبني على أسس قويمة شرعاً وعقلاً وعرفاً، وقد هدى الله رسله عليهم الصلاة والسلام إلى حسن الحوار، وأيدهم بالمنطق الصائب والحجج الباهرة، والخلل من المعاندين لهم الذين قابلوا ذلك الحوار الأمثل بأسلوب أهوج معوج لا يمُتُّ إلى الإنصاف بصلة، وما الذي قصَّ الله علينا من مخاطبات أنبيائه عليهم الصلاة والسلام لأقوامهم إلا أسلوبٌ مثاليٌّ استعملوه لإيصال الدعوة إلى المدعوين، وعرض ما عندهم من الحق المبين، والهدي القويم بحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ. ولما كانت شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم آخر الشرائع وناسختها وموجهة إلى الثقلين كافةً تضمّنت جميع وسائل البقاء والامتداد والتأثير، ومنها تقديم وسيلة الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، قال الله تعالى: (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقد طبّق النبي صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه، وطبّقه بعده أتباعه بإحسان في مختلف العصور، وانحرفت عن هذا الهدي النبوي الجماعات المتطرفة التي حاولت زعزعة المجتمعات المسلمة في هذه الفترة بكل عنفٍ وعجرفيةٍ، وَسَعَتْ جاهدة إلى استعداء الأمم على المسلمين بارتكابها أعمالاً لا يُقرُّها الإسلام وإلصاقها بتعاليم الإسلام، ومهما بلغت الأذية التي ألحقتها هذه الفئات الضالة بالمجتمعات الإسلامية فلن تصمد أمام أهل الحق، كما هو شأن مثيلاتها من حركات الخوارج عبر التاريخ، وقد شرّف الله تعالى المملكة بكونها رائدة في هذا العصر لنشر تعاليم الإسلام على ضوء الكتاب والسنة، ولها إسهامٌ مميزٌ في نشر الثقافة الإسلامية في كثير من المجتمعات شرقاً وغرباً، وبفضل الله تعالى كان لهذا تأثير بالغ الأهمية في توجيه الناشئة نحو الاعتدال والوسطية، وتجنيبهم خطر الأفكار المتطرفة التي تروجها الفئات الضالة، ومن المجالات التي كانت فيها المملكة رائدةَ سلام: الحوار بين الأديان والحضارات، فقد جعلته محل العناية؛ لأن الحوار والتفاهم من أهم وسائل التأثير في هذا العصر، وقد تهيأت في عصرنا فرصٌ كثيرةٌ لإطلاع أهل الديانات على سماحة ديننا وكونه الصالح للبشرية، وتفنيد ما يحاول أعداؤه إلصاقه به من التهم التي لا أساس لها. وجهود المملكة في دعم حوار الأديان والدفاع عن ديننا وإظهاره على صورته السمحة كثيرة متنوعة، ومن الجهات التي أسهمت فيها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهي أهلٌ للنهوض بهذه المهمة لمكانتها المرموقة وكونها ينضوي تحت لوائها الكثير من أهم علماء وفقهاء ومثقفي الأمة الإسلامية، وفي هذا الصدد احتضنت الجامعة وموّلت كرسي (اليونيسكو للحوار بين أتباع الديانات والثقافات)، وكان أستاذ الكرسي سعادة الأستاذ الدكتور عبدالله بن محمد الرفاعي، مدعوماً بهيئةٍ علميةٍ استشاريةٍ للكرسي مكونة من عدد من الأساتذة داخل الجامعة وخارجها، فكان هذا اختياراً موفقا في كل جوانبه، من ناحية فكرة الكرسي المتعلقة بقضية مُلحةٍ جدّاً، ومن ناحية الجهة التي انتدبت له، ومن ناحية الأستاذ المنوط به الكرسي، ولهذا الكرسي أهداف نبيلة من شأنها أن تعود على المجتمعات بخير، منها: أولاً: التأصيل العلمي للحوار بين أتباع الديانات والثقافات، والعمل على تطويره، وتنظيمه. ثانياً: المساهمة في بناء ثقافة عالمية تؤمن بالحوار وسيلة للتعايش مع الآخرين من أتباع الديانات والثقافات. ثالثاً: رصد وتحليل توجهات الرأي العام المحلي، والدولي تجاه الحوار بين أتباع الديانات والثقافات. رابعاً: تأهيل كوادر علمية مميزة تستطيع المشاركة بفاعلية في الحوار الحضاري، وتسهم بدور إيجابي في التقريب بين المجتمعات. خامساً: تعهد مخرجات مبادرات الحوار العالمي بين أتباع الديانات والثقافات (اللقاءات التحاورية، الإصدارات العلمية ..) بالرصد والدراسة والتحليل بما يسهم في دعم الحوار ويحقق أهدافه. سادساً: تشجيع البحث العلمي المتخصص في الحوار بين أتباع الديانات والثقافات داخل الجامعة وخارجها. وقد تحققت لهذا الكرسي المبارك إنجازات من أهمها: أولاً: الانتهاء من تأليف كتاب لأستاذ الكرسي بعنوان "العوامل المؤثرة على اتجاهات الإعلاميين المسلمين نحو الحوار مع الآخر"، الحوار الإسلامي الغربي نموذجاً - دراسة ميدانية على عينة في 19 دولة. ثانياً: الانتهاء من كتابة بحث علمي بعنوان: "ثقافة السلام والتسامح والتعايش في الخطاب الإعلامي لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله"، وهو في مرحلة الطباعة. ثالثاً: تجري طباعة مشروع بحث بعنوان: "دور الإعلام الجديد في تعزيز ثقافة الحوار بين أتباع الديانات والثقافات". رابعاً: عقده حلقات نقاش علمية، وتنظيم لقاءات تعريفية، والعمل على ترجمة إصدارات من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية، ولو يسمح المجال لنثرت في هذا المقال من إنجازات الكرسي ما يثلج الصدر، ويسرُّ الخاطر.
مشاركة :