لأن المدن التي نقرأ عنها كثيرا ولم نرها تتحول عند الأدباء بمثابة حلم دائم ومصدر للخيال المتدفق، فسيكون بإمكانهم صنع سلسلة طويلة من الخيال المفترض، وفي حقيقة الأمر فالرغبة الداخلية توحي لأولئك الكتاب على أنهم سيحققون المعجزات الإبداعية عندما يكونون جزءا من أروقة تلك المدن.سيكتبون الشعر عن طرقات تلك المدن التي بقيت حلما ونسائها، ومن حاناتها العتيقة سيستلهمون روايات مثيرة، سيعيدون قراءة تاريخها بلغة لامعة ومبكرة تحدث فتحا إبداعيا!لكن لسوء حظهم مثل هذا لن يحدث لأن أبناء المدن نفسها ينهمكون بالتجريب المستمر أصلا، لكنهم لم يجعلوا منها حلما متدفقا لأنها جزء من حياتهم التلقائية، يتفاعلون معها بشكل طبيعي، ربما يحلمون بمدن أخرى لم يروها، لكن لا يصبح مثل هذا الحلم موضع جدل إبداعي إلا إذا كانت تلك الأماكن عصية على الوصول إليها والاستقرار فيها.قد يكون مثل هذا الحلم مقتصرا على مدن بعينها، وليس كل المدن، لكن هذا الحلم أيضا مقتصر على الأماكن التي تحول دون أن ندخلها بيسر لأسباب لوجستية وليست شخصية، نيويورك مثالا ولندن وباريس كذلك.أعتقد أن هذه الأحلام تسقط ميتة بعد فترة من العيش في مدن كان أحدنا يحلم بها. فالقيمة تكمن فيما تكتبه عن مدينتك، الروائي عبدالستار ناصر مثلا برع في الكتابة عن بغداد ومحلة الطاطران، ولم يجد ما يكتبه بعد العيش سنوات في كندا، مع أنه في قصصه القصيرة كتب أشد الأمنيات توقا لمدن مرّ عليها زائرا من قبل، لأنه ببساطة كان يعيش في بغداد عندما كتب تلك القصص عن المدن الغريبة.حنا مينا مثال متميز آخر عن علاقة الكاتب بالمدينة، وليست المدينة الحلم كباريس مثلا، لأنه كتب عن دمشق واللاذقية بطريقة العارف بدبيب أزقتها ومزاج بحرها.اليوم تعترف الكاتبة رافيا زكريا بكذبها حين قالت إنها تعيش في نيويورك لكي تكون داخل الفقاعة الثقافية للمدينة. لكن هذا انتهى الآن بالنسبة إليها مع إصابة المدينة بوباء كورونا. على الرغم من أن كل ما نشرته لحد الآن مرتبط بمجتمعها الآسيوي.فقاعة نيويورك الثقافيةيبدو لي مثال رافيا، وهي كاتبة على درجة من الأهمية، جدير بالتأمل بالنسبة إلى الكاتب العربي الذي يحلم بنيويورك وباريس ولندن، ولم يسبق أن حالفه الحظ وعاش فيها أو على الأقل زارها.كما نمتلك مثالا آخر هو الروائي الليبي هشام مطر الذي يكتب بالإنجليزية، فقد اخترق الفقاعة الثقافية للكتابة بقيمة نصه الإبداعي، إلى درجة أن روايته الأولى “في بلاد الرجال” دخلت المنافسة القصيرة على جائزة بوكر البريطانية.رافيا تكتب بالإنجليزية وصدرت لها ثلاثة كتب تعالج طبيعة المجتمعات الإسلامية وعلاقتها بالغرب، إنها تقدم صورة للقارئ الغربي عن علاقة المرأة بالدين والتقاليد فكتبت “زوجة الطابق العلوي: تاريخ حميم لباكستان”، وآخر كتاب لها تحت عنوان “حجاب” لقي صدى واسعا في صفحات عرض الكتب بالصحافة الأميركية، كما قدمت قراءة لافتة في نساء أخريات في مجلة “بوسطن ريفيو” لفتت انتباه القارئ، وتستمر في كتابة أعمدة صحافية بالغارديان البريطانية.في كتابها “الحجاب” مثلا قدمت قراءة أدبية ونفسية وفلسفية لمفهوم غطاء الرأس عند المرأة المسلمة، إذ يمكن أن يكون الحجاب أداة لتمكين المرأة، ويمكن أن يمنحها سلطة عبر إخفاء هويتها أو قد يشير إلى العبودية والخداع. لهذا تقرأ رافيا في هذا الكتاب وظيفة لباس يقوم بأكثر مما يستحقه عندما يفرض إلزاميا على المرأة بالقوة السياسية والدينية كما يحدث في إيران أو يمنع عنها بقوة القانون كما يحصل في فرنسا.مثال رافيا زكريا ككاتبة تعيش في الولايات المتحدة أقرب إلى القارئ العربي عن علاقتها بلوبيات النشر والمجد الأدبي، ليس لأنها كاتبة ناجحة فحسب، بل لأنها تعطينا مثالا على الاندماج في الثقافة الغربية وتقديم قراءة حقيقية عن أوضاع الشرق.شعرت رافيا بأن نيويورك مركز لعالم النشر، فمن يعيش وينشر هناك يعني أنه وضع الخطوة الأولى على طريق المجد الأدبي، لكنها استغرقت وقتا طويلاً لتعرف أن الكاتب يصعب عليه أن يزدهر خارج بواباته.لذلك كذبت على نفسها وعلى الناشرين بشأن طبيعة حياتها في نيويورك لتبدو أكثر إنجازا، وتوحي بأنها قد دخلت فعلا النادي الأدبي في نيويورك.في نيويورك، كما في لندن، تقول الأسطورة، إن الكتّاب الطامحين لمجد الفنون والآداب يمكن أن يعيدوا صنع الأوهام التاريخية برؤيا أدبية معاصرة. إلا أن رافيا لا ترى أن العيش في شقق قذرة وسط زجاجات النبيذ الرخيصة والحضور الدائم بورش القيل والقال الأدبية التي تعج بها نيويورك، كلها كافية لتؤهلك لدخول فقاعة النشر الأدبية.هشام مطر يعتقد ذلك أيضا، بل إن موهبته الإبداعية فقط جعلته يطرق باب بينغوين أعظم دار نشر بريطانية لتتلقف روايته الأولى “في بلاد الرجال” مع أنه يتحدث عن حقبة السبعينات والثمانينات من القرن العشرين في بلاده الأصلية ليبيا.عروس وسط ناطحات السحابتسرد رافيا سنواتها الأولى في نيويورك بوصفها عروسا مراهقة عريضة العينين مغطاة بالحناء وسط ناطحات السحاب، فيما ذهنها مصاب بهاجس الكتابة الإبداعية، وهو سبب كاف بالنسبة إليها للزواج من رجل لا تعرفه على أمل دراسة الأدب في أميركا.ومع أن الزواج لم يدم طويلا كما كان يخبرها عقلها منذ البداية، إلا أن الطموحات الأدبية استمرت بشغف أكثر عند رافيا زكريا.كانت تواجه السؤال التقليدي “من أين أنت”، على أيّ حال هذا السؤال يتبادله المهاجرون مع بعضهم البعض بشكل مملّ وساذج ويبدؤون به الحديث مع كل الأغراب الذين يلتقون بهم، إلا أنه سيكون مثيرا للاستغراب ومفاجأة مزعجة عندما يطلقه أيضا المهتمون بالأدب على زملاء آخرين.تقول رافيا إن سؤال “من أين أنت” عندما يسأله أحد الأدباء لآخر غريب هو مسعى لا يقبل الجدل بشأن تحجيم المقابل مهما كانت درجة موهبته، وحين يحصلون على إجابة رافيا الواضحة “أنا من الهند” تقابل دائما بنظرة عابسة.ماذا يحصل مع هشام مطر، من حسن حظه أنه تعلم مثل هذه اللعبة المخاتلة عندما كان صبيا في مدرسة داخلية بسويسرا، وكان يتهرب من اسمه وخلفيته الليبية بسبب مخاوف سياسية متعلقة بوالده المعارض آنذاكلنظام الراحل معمر القذافي. وعندما درس الهندسة المعمارية في لندن تكيف مع المجتمع إلى حد أن أحلامه برمّتها كانت باللغة الإنجليزية مع أنه يحلم عن بلاده العربية بشمال أفريقيا تحت وطأة الرثاثة السياسية.كانت رافيا تحاول إقناع الناشرين بأنها من سكان نيويورك تحديدا عبر الاستعانة بعنوان أحد أصدقائها، لأن ازدواجية الناشرين وغطرستهم تجعلهم لا يبالون على الأرجح بما يرسله أدباء بلدان الشمس الساطعة. لكنها استخدمت لاحقا عنوان وكيلها الأدبي عندما كان يصر الناشرون على التعرف عليها. ومع ذلك وبعد أن أصدرت ثلاثة كتب ونشرت مئات المقالات مازال العمل مستمرا على استبعادها من البيئة الأدبية لأنها لا تعيش في نيويورك بشكل دائم.بماذا تذكرنا هذه القصة، بالتأكيد بدوريس ليسنغ، النوبلية التي لم يعترف الناشرون بمخطوطة حملت اسما مستعارا لها! وعندما عادت ونشرتها باسمها الحقيقي تحول الكتاب إلى موضع احتفاء مبالغ فيه بين النقاد.الكذبة الضروريةفي البداية بررت رافيا الكذبة على نفسها لأنها كانت ضرورية بالنسبة إليها، كما أن تقاليد نيويورك الأدبية تتطلب ذلك أيضا، ومن ثمّ أقنعت نفسها بأنه أمر نصف صحيح عندما كانت تقضي أياما من كل شهر في نيويورك.واليوم تستذكر ذلك بعد الذعر الذي أصاب أهالي نيويورك من انتشار وباء كورونا وقد حلت عليهم كارثة الوباء وكشفت عدم قدرتهم على تحمل تكاليف الحياة، فلم يعد للعيش في نيويورك تلك الميزة الباهرة، لقد وضع كورونا حدا لأسلوب المعيشة في هذه المدينة المكلفة، بينما تحررت رافيا من فكرة الحياة الأدبية في نيويورك.لقد تحررت رافيا زكريا أخيرا من تلك الكذبة، الأصح لم تعد تكذب على نفسها بعد أن همّشت فكرة السفر الدائم إلى نيويورك من أجل الحصول على بطاقة المجد الأدبي التي يمنحها الناشرون، لكنها ببساطة يمكن أن تكون كاتبة بدلا من الانخراط في فكرة ما يدور حول نيويورك نفسها.وهشام مطر أيضا، كاتب بريطاني أميركي “ولد في نيويورك ويعيش حالياً في منطقة همرسميث بلندن” مع أنه ليبي في الأصل ولم يكتب في رواياته الثلاث لحد الآن وكتبه الأخرى في أدب الأطفال إلا عن ليبيا.بدأ مطر كتابة روايته الأولى “في بلاد الرجال” في أوائل عام 2000. ووقّع عليها ناشرو مؤسسة بينغوين العالمية للنشر في خريف عام 2005 في صفقة تضمنت كتابين. نُشر “في بلاد الرجال” في يوليو من عام 2006 وتُرجمت إلى ثلاثين لغة، ثم روايته الثانية “اختفاء” واحتوى متنها على شخصية يؤخذ والدها من قبل السلطات، ورغم اعتراف مطر بعلاقة “اختفاء” بقصة والده، لكنه ذكر أن الرواية ليست سيرة ذاتية.نشر بعد ذلك مذكراته “العودة” والتي تركز على عودته إلى بلده ليبيا عام 2012 بعد سقوط نظام الراحل معمر القذافي من أجل البحث عن حقيقة اختفاء والده.بعد صدور “في بلاد الرجال” كنت أحاول أن أتعرف على هشام الليبي أكثر من البريطاني في مجموعة أسئلة أطلقتها عليه في حوار نشر قبل سنوات، فأوضح لي بأنه بريطاني أميركي ليبي، والظاهر أن المبدع بداخله لديه الشعور نفسه، إنه في غمرة معارك متعددة في عدّة أمكنة ممّا أشعره بعدم الانفصال، فهو في الوطن بلندن، مدينة السعداء الراغبين في اللّذة.يقول هشام “مهارتي تتبدّى في أنني ما أن تحط بي الطائرة في مدينة لم أزرها من قبل حتى أتخيّل أنني وُلدت هناك والموت فيها سيكون أمرا شاذا.. وتقريبا أول ما يتبادر إلى ذهني إحساسي الشديد بانعدام جذوري”.فهشام هذا الشاب المصفوع بملامح السماحة والهدوء الرصين مثل سليمان بطل روايته الأولى يهرب من سرّه الكبير، من أجل أن يمتلك انتقامه في التدليل على أن الشرّ لا يكسف الشمس، الأمر الذي يغفر لنا تكرار وصف رواية “في بلاد الرجال” بأنها رواية شديدة التأثير، واستثارة ناعمة للصراعات البشريّة الكونيّة، إنها تتعلّق بالهويّة والمغفرة والحبّ.
مشاركة :