في خضم الثورات النقدية المتتالية في القرن الماضي ظهرت دعوات مبكرة لإيقاف هذا السباق المحموم نحو علمنة الأدب/القراءة، والتحرر من كل قيودها، وإعلاء قيمة المتعة واللذة دون التأثر بأي عوامل يمكن أن تصرف القارئ/المتلقي عن الاستمتاع بالنص. ومع التردد والاضطراب المفاهيمي لمصطلحي اللذة والمتعة الذي أشار إليه رولان بارت في كتابه "لذة النص" أثناء سعيه لتحديد موضع اللذة بين أطراف العملية التواصلية، وتساؤلاته عن حدوثها وتحققها لدى المتلقي تبعًا لتحققها عند الكاتب أثناء إبداع نصه، والإشارة إلى انتفاء التلازم بينهما، ومطالبة الكاتب/المبدع بمحاولة إغواء قارئه على الدوام، دون أن يعرف مكانه. وبنفي التلازم في حدوث اللذة بين المبدع والمتلقي، يقترح إبداع فضاء للمتعة يوفر إمكانية حدوثها بشكل مستقل عن المتلقي، ويسمي هذا الفضاء جدلية الرغبة، وتوقع المتعة. ويرى بارت أن على الكاتب أن يثبت اشتهاءه للقارئ عبر كتابته، فالكتابة عنده هي علم مُتع الكلام، ويستشهد بساب الذي يجعل لذة القراءة في التصادمات وتلاقي المتنافرات لتبدع ألفاظًا جديدة وفخمة، ويجعل لذة النص في اللحظة المنفلتة أو اللحظة الروائية الخالصة، ويشبهها بلحظة قطع حبل المشنقة عن المشنوق قبل أن يقضي نحبه، ويقابل تلك الدرجة بمعرفة نهاية القصة أو ما يسمى (الترضية الروائية)، والمفارقة تكمن في تفاوت تلك اللذة، فإحداها أكثر ثقافية من الأخرى. وفي تكييفه لصناعة اللذة اللفظية من خلال الاغتراف مما يسميه "فردوس الكلمات" يجعل بارت إنتاج النص الفردوسي نتيجة حالة من التخالط الناجم عن الغزارة اللفظية، فتتدافع الألفاظ جميعًا نحو اللحظة التي تختنق فيها اللذة؛ لاتساعها المسرف، وتندفع مرة أخرى لتدخل في رهان ابتهاج مستمر. ويشير بارت إلى عدم كفاية هذا الاستقصاء المادي عن اللذة، إضافة إلى حضور الثقافة والصيت كمؤثر مهم في الحكم بها، فتواتر ما يقرأه الناس وما لا يقرؤونه هو الذي يصنع لذة الروايات الذائعة الصيت كبروست أو بلزاك أو الحرب والسلام. وبالعودة إلى مصطلحي اللذة والمتعة ومحاولة فك الاشتباك بينهما وكشف ما يكتنفهما من غموض، يبيّن اتساع مفهوم اللذة وقدرته على احتواء المتعة تارة، ويكون معارضًا لها في تارة أخرى، وفي إطار مقاربته للمصطلحين يجعل اللذة متعة دنيا، والمتعة لذة قصوى، واللذة قابلة للوصف، بينما المتعة ليست كذلك، قبل أن يقرر أن نص المتعة ليس إلا النمو المنطقي والعضوي والتاريخي لنص اللذة، فالطليعة دائمًا ليست إلا شكلاً متقدمًا ومتحررًا للثقافة الماضية. أخيرًا ينتقد بارت ما يطلق عليه "الميثلوجيا التافهة" في مساعيها لتصنيف اللذة كفكرة يمينية، في مقابل رمي كل ما هو ممل ومجرد وسياسي إلى اليسار، ويؤصل لذلك بالمطالب اليمينية باللذة لمواجهة الشطط الذهني والنزعة الكهنوتية التي تجعل القلب ضد العقل، والإحساس ضد الاستدلال، والحياة ضد التجريد. بينما في اليسار نجد أن المعرفة والمنهج والالتزام والنضال قد وضعت جميعها ضد اللذة المجردة. ويبدو بارت حائرًا تجاه أطروحته اللذوية حينما يتعلق الأمر بالمثال أو الأنموذج لما يدعو إليه، ويقر بعدم تحصيل نتيجة نهائية لهذا العمل، ورغم ذلك يبدو ممتعًا، وفي محاولة لإيجاد هذا الأنموذج يفكر في حصر كل النصوص التي سبق أن استلذّ بها أحد ما، ومن ثم عرضها على مشرحة التحليل، إلا أنه يتوقف عند ذلك جازمًا بأن محصلة هذا العمل لن تفضي لغير شرح النصوص؛ لأن اللذة لا تقال.
مشاركة :