بين نهارات «المعرفة» ومهارات «الذات» صال وجال في حقول التأثير، يحمل حقيبته «الجامعية» صباحًا، ويؤصل حقبته «الصحفية» مساء.. مثقلاً قلبه «بهموم» الآخرين، ومشغلاً عقله بهمم المحبين.. كانت «المكتبات» عشقه الأول الذي بُني منه «صروح» التدريس، وبقيت «المعلومات» هدفه الأمثل الذي شكل فيه «طموح» التأسيس؛ لتأتي الصحافة كابنة بارة، أجاد تدليلها في بلاط مهني، كان فيه أبا وإنسانًا وموجهًا، لعب بإتقان في مراكز صناعة المحتوى، وفكر بإذعان في خانات صياغة الأعداد؛ ليبقى «جوهرًا بشريًّا مشعًا»، أضاء قلوب زملائه، واستضاء في رهان «المهنية» بهيمنة «المحترف» وسيطرة «المشرف» في سيرة بيضاء، عكست بياض قلبه، ومسيرة عصماء وظفت صفاء سريرته. إنه رئيس تحرير صحيفتَي البلاد وعكاظ سابقًا الإعلامي الدكتور عبدالعزيز النهاري -رحمه الله- أحد أبرز الإعلاميين والأكاديميين في الوطن. بوجه ساحلي الجذور، جداوي النشأة، تتقاطر منه تقاسيم «الهدوء» وتفاصيل السكينة، مع عينَين واسعتَين، تتحركان بإنصات وإثبات من خلف عدسات طبية لا تفارقه، وملامح خليطة بين الود والجد، مع معالم إنسانية تطغى على نظراته وسكناته، وأناقة وطنية فاخرة، تعتمر الأزياء البيضاء مرسومة على تشكيل شخصي فريد، ومحيا رشيق أنيق يرفل بالرسمية، وكاريزما مألوفة، وصوت محفوف باللهجة الحجازية في اللقاءات الاعتيادية، مسجوع بمفردات تنطلق بحصافة، وتنطق بفصاحة، وعبارات متأنقة تتوارد منها لغة عميقة المنطلق، عتيقة المنطق، أنيقة الاختيار، قضى النهاري من عمره أربعة عقود وهو يملأ قاعات الجامعات بمحاضرات التعليم، ويسكب في الصحف عناوين الخبرة، ويسبك في المحافل أصول القدرة مرتديًا جلبابًا فضفاضًا من الحرفية، تطرز بحسن الخلق، وتعزز بلطف المعشر، وبرز بيقين العون؛ ليعيش بين دهرين من الكفاءة، أحدهما للثبات، والآخر للإثبات، واضعًا ذكره في «قلب» الأحداث، تاركًا شكره في «قالب» القناعة. في جدة وُلد وتعتقت روحه صغيرًا بحكايات «المداد»، ومغامرات «السداد»، في قصص الكادحين وهم يجنون «الرزق» من أعماق البحر إلى آفاق العيش الكريم في ميناء العروس العتيق، وتشربت نفسه أهازيج الحجاز وهو يراقب أفراح البسطاء في حيه الصغير، ويرتقب قصص التوجيه في حضرة والده الذي غرس في أعماقه الحفاظ على الصلاة، والتعلق بالمساجد، وحب المساكين، ويرتمي في أحضان «الحنان» في حضور والدته التي أسبغت عليه بالدعوات والمسرات؛ فنشأ وفي قلبه «يقين» المحبة، وفي عقله «حنين» الذاكرة.. ركض النهاري في أحياء الهنداوية والجامعة مكللا بتقوى التنشئة، ومجللا بتقى التربية.. مسابقًا أقرانه في ملاعب الحي مشفوعًا بدوافع الامتنان التي تغشت روحه وهو يسجل في ذاكرته الصغيرة صفاء الجيران، ونقاء الوجدان في أحداث اعتمرت وجدانه، وأحاديث غمرت داخله؛ فظل يكتبها من أفواه الحكماء داخل أسرته، ويحفظها من وصايا النبلاء وسط عائلته. سيرة تعليمية فاخرة، قضاها النهاري في مدارس التعليم العام بجدة، ثم التحق بجامعة الملك عبدالعزيز، وحصل على بكالوريوس علوم المكتبات والمعلومات مع مرتبة الشرف، ثم طار إلى أمريكا، وحصد الماجستير في التخصص ذاته من جامعة ميشيغان الغربية، ثم أتم رحلة الحصاد بنيل الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا. عاد لأرض الوطن، وعمل أستاذًا بجامعة الملك عبدالعزيز. ولأنه شغوف بالمعارف، ومحب للحرف، وعاشق للكلمة، فقد انتظم في العمل الصحفي حيث عمل في مهام عدة بصحف المدينة والبلاد والجزيرة، ثم عمل في صحيفة عكاظ نائبًا لرئيس التحرير، ثم رئيسًا لتحريرها بالتكليف، وعمل في وكالة الأنباء السعودية، وشغل منصب رئيس تحرير صحيفة البلاد لمدة 12 عامًا، وعمل في مناصب عدة براديو وتلفزيون العرب سنوات، وله العديد من المؤلفات والمقالات والأطروحات الإعلامية والمتخصصة. داهمته أوجاع «الرئة» فترة من الزمن، وقاوم أوضاع البلاء بالاحتساب بالأجر، والاكتساب في الصبر؛ فظلت ابتسامته «بلسمًا» لمصارعة المرض، وانتفاضته مبسمًا لمجابهة الأعراض. وكعادته كان يوزع عطايا أخلاقه ببذخ رغمًا عن ويلات التعب، مرسلاً البهجة بإسراف والمهجة باحتراف إلى كل أسرته وأصدقائه وأحبابه. توفي النهاري يوم الأحد 15 شوال الجاري بعد صراع طويل مع المتاعب الصحية، ونعته منصات الأدباء، وبكته عيون الرفقاء، ورثته حروف الأصدقاء، وتذكرته كلمات الزملاء، وترك في القلوب «فجوة» الغياب، وأبقى في الأنفس «سطوة» الرحيل.. رحل عبدالعزيز النهاري، وتصاعدت في أفق الرثاء نسائم «أثره»، وتعالت في منابر النعي نفائس «مآثره»؛ليظل «وجهًا» للنقاء، ويبقى «عنوانًا» للسخاء، تاركًا دلائل الأخلاق وبراهين القيم تتحدث علنًا، وتصدح جهرًا بشهادات الخلائق واستشهادات المواقف.
مشاركة :