مغازلة تركية لمصر تستهدف اختراق تحالف شرق المتوسط | محمد أبوالفضل | صحيفة العرب

  • 6/16/2020
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

وجهت أنقرة مرة أخرى رسائل سياسية للقاهرة هدفها إعادة العلاقات، لكن بحسابات تركية رغم أنها تدرك جيّدا أن شروط مصر للمضي في ذلك لن تكون سهلة، ومنها رفض التدخل العسكري في ليبيا ودفع قطر للالتزام ببنود المصالحة كاملة مع دول الخليج، علاوة على معارضة مصر لإيواء النظام التركي لجماعة الإخوان. محاولة تركية جديدة تستعمل ورقة المغازلات والمساومات التجارية لها مقاصد أخرى منها تفكيك تحالف شرق المتوسط، وهي خطة لن تجد أذنا صاغية في مصر. القاهرة - تريد تركيا أن تتعامل مع الدول المختلفة معها بلغة التجارة والمساومات التي تجيدها، ترفع شعارات المبادئ والشرعية عندما تجدها مفيدة لمصالحها، وتتخلى عنها إذا وجدتها متعارضة. وتسعى أنقرة إلى تطبيق معاييرها على الآخرين بزعم الاستفادات المتبادلة. ربما تكون هذه الطريقة قد مكنتها من تحقيق جزء من أهدافها مع الجهات التي تتقنها مثلها، لكن هناك قضايا لا تصلح معها مناورات وأساليب الغزل غير العفيف. خطاب بلا مضمون وجه ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي، رسالة إلى مصر، مساء الجمعة، مليئة بالإشارات السياسية. فمن حيث المنبر، جاءت عبر موقع “الجزيرة” القطرية، وليست وسيلة إعلام تركية، ما يعني أن هناك تفاهما بين أنقرة والدوحة على فكرة التقارب مع القاهرة. من حيث التوقيت، جاءت بعد تلميحات قطرية عدة للمصالحة مع دول المقاطعة العربية (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) وما وجدته من رفض حاسم، طالما لم تلتزم بالبنود الكاملة للمصالحة بعدما تصورت قطر، بالتعاون مع تركيا، إمكانية تفكيك الرباعي العربي أو اختراقه من خلال استقطاب دولة كبيرة بحجم مصر. تيقنت تركيا أن طرح القاهرة لمبادرتها الأخيرة لحل الأزمة الليبية، الهدف منه منع تدخلاتها في الأراضي الليبية، ورفع يدها عن المرتزقة والإرهابيين ودعم الميليشيات وحكومة الوفاق، بالتالي تعطيل توجهات أنقرة نحو المزيد من التوظيف لمذكرات التفاهم مع طرابلس في منطقة شرق البحر المتوسط، الأمر الذي سيكون مكلفا للرئيس رجب طيب أردوغان. إذا نجحت أنقرة في خطوة التهدئة مع مصر، قد تتعثر في الكثير من الخطوات الإقليمية والدولية الساعية للتضييق على تحركاتها، فالأيام الماضية شهدت خطوات حثيثة على الصعيد الثنائي، حيث وقعت إيطاليا اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع اليونان، وعلى الصعيد الجماعي، بدأ الاتجاه إلى تطوير التعاون بين عملية “إيريني” وحلف شمال الأطلنطي (ناتو) لمنع تصدير الأسلحة التركية إلى ليبيا، والالتزام بقرار مجلس الأمن في هذا الصدد. رغبة تركيا في التفاهم لم تتفاعل معها القاهرة الرافضة للتدخل في ليبيا ولإيواء أنقرة لجماعة الإخوان عرضُ أقطاي للقاهرة، استخدم فيه لغة براغماتية لأقصى درجة، قائلا “تركيا ومصر لهما مصالح مشتركة في مياه البحر المتوسط الدولية.. الأفضل أن نغض الطرف عن الخلافات بيننا في هذا الموضوع، فنحن عندما نختلف في قضية ليس من الحكمة أن نكون أعداء في كل القضايا، فنحن نتفق مع روسيا في أمور ونختلف في مواضيع أخرى”. فالرجل يريد تفصيل صفقة على مزاجه يستبعد منها الحديث عن جماعة الإخوان ودعم المتشددين. ما يعزز فكرة المناورة في هذا الخطاب، أنه ألمح إلى وجود دول إقليمية تحرّض القاهرة على الابتعاد عن أنقرة، وهي إشارة كافية لتفريغ رسالة أقطاي من محتواها، والتي جاءت بعد يوم واحد من رسالة شبيهة قدمها وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، أشار فيها إلى حجم الوجع، وأن “الطريقة الأكثر عقلانية لعودة العلاقات بين البلدين، تكون عبر الحوار والتعاون مع تركيا بدلا من تجاهلها”. رغبة تركيا في التفاهم مع مصر ليست جديدة، فقد سبقتها تلميحات مماثلة في فترات سابقة، ولم تجد لدى القاهرة أذنا صاغية، وجرى إهمالها، لذلك عندما احتفلت وسائل إعلام تركية الشهر الماضي بمقال لكاتب مصري لوّح فيه بإمكانية إعادة النظر في العلاقات مع أنقرة، سارعت جريدة الأهرام الرسمية التي ينتمي إليها الكاتب بنفي مسؤوليتها عن فحوى المقال، مؤكدة أن السياسة الخارجية تعبر عنها مؤسسة الرئاسة في مصر، ووزارة الخارجية، بمعنى أن القاهرة لن تتجاوب مع رغبة أنقرة في المصالحة. يأتي العزف الراهن على وتر التعاون في شرق المتوسط انطلاقا من الترسيم البحري بين أردوغان ورئيس حكومة الوفاق، فايز السراج، ومنح نحو 35 ألف كيلومتر من المياه الإقليمية لمصر، زيادة عن حصتها المعروفة، وهي رسالة فهمتها القاهرة مبكرا ولم تعبأ بها، لأن الاتفاق باطل، والترسيم يثير شكوك دول كثيرة، وتعاملت مع مذكرات أردوغان والسراج برفض تام، حتى لو كانت تجني من ورائها مكاسب. تسير الخطوات التركية على الحافة، بمعنى أن قيادتها تريد أن تمنح وتمنع، وتأخذ وتعطي، بالطريقة التي تراها مناسبة من وجهة نظرها، متجاهلة علامات كثيرة حددتها القوى المناهضة لها، ومن الصعوبة اختراقها، كما أن ترسيم أردوغان – السراج عليه علامات استفهام عديدة، ومرتبط بوجود الأخير على رأس الحكومة، المعرّضة أصلا للرحيل في أي وقت عندما تنطلق عملية تسوية سياسية جادة في ليبيا. علاوة على أن “مجاملة” تركيا البحرية، جزء منها اضطراري، كي تضمن حصة كبيرة في مياه البحر المتوسط، لتُوجد بينها وحدود ليبيا ممرا منطقيا، حيث تقع مصر في المنتصف تقريبا، وجزء ينطوي على مكونات سياسية غرضها إيجاد فتنة بين دول منتدى البحر المتوسط، ومقره القاهرة، وهو الأداة الإقليمية الفاعلة التي تلتف حولها الدول المؤثرة والمتضررة من تصرفات تركيا في شرق المتوسط. تشبيك سياسي مشكلة نظام أردوغان أن خطابه يحمل حزمة كبيرة من التناقضات مشكلة نظام أردوغان أن خطابه يحمل حزمة كبيرة من التناقضات تعد مصر القاسم المشترك بين دول المنتدى، إذا قبلت القاهرة بالتعاون مع أنقرة سوف تتسبب في متاعب مع الدول الأخرى، أو على الأقل تعيد ترتيب أوراقها، فتتداخل وتتشابك، وتتنافر وتتباعد، وهو ما يحقق لتركيا مصلحة عاجلة تمكنها من المضي قدما في أهدافها البغيضة، والتي لا تتوقف عند حدود بحرية أو خرائط على الأرض، كأنها تريد أن تتحالف مع مصر لتسهل مهمة رغبتها في الهيمنة على مقاليد أمور كثيرة في المنطقة. لجأت تركيا أيضا إلى طمأنة مصر، وهي تعلن تصميمها على بسط نفوذها على مساحة كبيرة من أراضي ليبيا، والتي تؤثر بقوة في أمنها القومي، زاعمة أنها لا تستهدف القاهرة، في محاولة أخرى لرفع الانزعاج عنها ممّا هو قادم من الغرب، وأنه لا حاجة للإعلان عن جاهزية مصرية عسكرية على الحدود مع ليبيا. مشكلة مستشاري أردوغان، أن خطابهم يحمل حزمة كبيرة من التناقضات، وفقد قدرا من مصداقيته السياسية لدى القريبين والبعيدين، ولن تنطلي الكلمات المعسولة التي يتفوه بها بعض المسؤولين على مصر، لأن أنقرة تملك أكثر من خطاب ينحصر هدفه في جس النبض، ومعرفة المدى الذي يمكن أن تصل إليه طموحات تركيا. من يريد التعاون مع مصر عليه الاستجابة لأبسط أنواع الالتزامات السياسية، أي يمتنع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ويرفض احتضان معارضيها، وتقديم كل أنواع الدعم لهم، بل وتشجيعهم على ارتكاب الكثير من الموبقات الأمنية والسياسية. من الصعوبة على أي دولة، مهما بلغت أزماتها، أن تقبل التعاون والتفاهم مع خصم يضعها في مصاف الأعداء الإستراتيجيين، فما بالك بتركيا التي لا تزال تؤوي الإخوان، وتقدم لهم كل أنواع الدعم المشروعة وغير المشروعة، وتعتبر ذلك من صميم أهداف سياستها الخارجية. كيف لدولة لا تعترف بالنظام المصري وتصفه رسميا بأنه “انقلابي” وتريد التعاون معه؟ هذه كفيلة ببصم توجهاتها بالإفراط في الانتهازية، وكفيلة أيضا برفض التقارب معها، لأنها تشكك في جديتها، وتؤكد أن رغبتها الظاهرة في التعاون محكومة بأغراض خفية. إذا كانت أنقرة جادة في تخفيض مستوى التوتر عليها الالتزام بمجموعة المعايير التي أعلنتها القاهرة صراحة أكثر من مرة، وأبرزها تسليم العناصر المتورطة في أعمال إرهابية وقعت في مصر، ورفع يدها عن دعم الإخوان، وعدم التدخل في شؤون الدول العربية، ووقف شحن المعدات والمرتزقة إلى ليبيا، والامتناع عن سياسة البلطجة في شرق المتوسط. فهل يستطيع أردوغان الإقدام على هذه الخطوة الكبيرة؟ أشك طبعا، لأنها تعني نهايته السياسية. قد تكون هذه الشروط قاسية على أردوغان، غير أن المعطيات المصرية تثبت أنها ضرورية، لذلك تندرج إشارات الغزل التي أطلقها جاويش وأقطاي، ضمن الأطر الحاكمة للمراوغات التركية، التي تريد الهروب إلى الأمام، والحد من الضغوط المتوقعة عليها، لأن بعض الدول الغربية بدأت تتململ من تصرفاتها، وروسيا ترى تداعيات سلبية عليها قد لا تستطيع تحملها في سوريا وليبيا، لأن تركيا تريد ممارسة غطرستها على موسكو.

مشاركة :