«سيدي شاهن يا شربيت، خرقه مرقه يا أهل البيت.. إما جواب ولا تواب.. ولا نكسر هذا الباب، لولا خواجة.. ما جينا ولا طاحت. كوافينا، يحل الكيس ويعطينا، ستي سعادة.. هاتي العادة، يا سعيد. هات العيد، إما مشبك. ولا فشـار ولا عروسة.. من الروشـان، ولا عريس.. من الدهليز قارورة يا قارورة ست البيت غندورة.. كبريتة يا كبريتة ست البيت عفريتة...!». نشيد كان يردده أطفال المدينة المنورة في «الحارات» منذ ليلة النصف من شعبان؛ استعداداً لقدوم الشهر الفضيل، يطلبون فيه العيديات من سكان البيوت ويجوبون الشوارع؛ فرحاً بما أخذوا! عادة كانت جميلة تعبِّر عن التضامن والفرحة بين أبناء الحارة الواحدة، اندثرت مع الزمن، إلا أنَّها ما زالت ترن في آذان العديد من كبار السن، يتناقلونها للأجيال جيلاً بعد جيل! وما إن يعلن الديوان الملكي في المملكة العربيَّة السعوديَّة ثبوت رؤية هلال شهر رمضان المبارك، بعد أذان المغرب يوم ٢٩، حتى تعج شوارع جدَّة ومكَّة بالزحام، وتمتلئ المتاجر الغذائيَّة بالمتبضعين، فرحين بقدوم الشهر المبارك، كما تقوم كل أسرة بالتجمع في منزل العائلة الكبير لتقديم التبريكات والتهاني بحلول الشهر، يقبّلون رأس الكبير ويسعدون الصغير، عادات توارثت منذ قديم الزمن في المنطقة الغربية (الحجاز) مع بدء رمضان، كما تعلق الزينة والفوانيس على الأبواب، وتزدحم الشوارع وتسمع صوت «البواري»، لا يتسوقون من أجل التسوق فقط، بل من أجل أخذ كميَّة فائضة من الطعام؛ لإطعام الأهل والأحباب والجيران، وجزء لموائد الرحمن والسلال الرمضانيَّة. عادات أهل الحجاز ثابتة، ولا تتغيَّر رغم اختفاء بعضها، إلا أنَّ كثيراً منها لا يزال عالقاً في أذهان الأسر، بعضهم يطبقه بحذافيره، كما ورثه عن أجداده، وبعضهم يطوره لمواكبة العصر الحديث. تخبرنا عزة عناني (66 عاماً)، من سيدات جدَّة عن رمضان: كنا وقبل دخول شهر رجب نشعر بروحانيَّة للشهر الفضيل، فنستعد لاستقباله قبل وقت طويل، ونستشعر الروحانيَّة ونخطط له بدءاً من الصوم إلى جميع العبادات التي تكسبنا الأجر، مثل زيارة الأهل وقراءة القرآن والصدقات، ونتلذذ بما نصنع من مأكولات مخصصة لهذا الشهر مثل: شوربة الحبِّ، والسمبوسك والسوقودانة، والألماسيَّة والططلي، والمهلبيَّة، والتمرة باللوز، والسمسم، وقمر الدين، والفول، ولا بد من تبخير الكاسات التوتوة بالمستكة وملئها بالزمزم وعليها ماء الورد والكادي، والعيش أبو اللحم، والمختوم، والأرز البخاري من المأكولات الشائعة لدينا. والسحور لا بد من السمك والأرز الأبيض، واجتماع العائلة عند الجد والجدة أول يوم رمضان أمر محتوم؛ لتناول الإفطار والاستمتاع بالجو العائلي الطيب، أما الآن في رمضان، فما زلنا نستمتع ببعض عاداتنا وتقاليدنا، ولكن للأسف ليس بلذة الماضي، ربما بسبب تنوُّع العمالة واختلاف ما كان يصنع بالماضي، كنَّا نرى صاحب المال يبيع ويباشر عمله بنفسه، أما الآن فلا تكاد تراه حتى بالمباشرة البعيدة، وللأسف قلّت زيارات الأهل «ولمتهم» على سفرة الإفطار؛ بسبب يفسره بعضنا ببعد المسافات، وازدياد أفراد الأسرة، وعدم وجود معينة لربة المنزل، لكن لا يسعنا إلا أن نحمد الله على الزمن الجميل الذي أصبح ذكريات نسعد لتذكرها. وتقول فوزية نقلي (75 عاماً)، عن رمضان في مكة: كنَّا نعيش على «الأتاريك» وليس لدينا ثلاجات ولا كهرباء، لكن كنَّا سعداء بأعمالنا كربات بيوت. يبدأ يوم ربة المنزل من الساعة التاسعة صباحاً، وتستعد لطهو المأكولات المتنوعة، ولا بد أن تحسب حساب الجيران والضيوف «اللي على غفلة»، وعند صلاة الظهر تستعد لطبخ وجبة السحور أيضاً، ثم تأخذ قيلولة بسيطة، لتعود مع أذان العصر لتجهز سفرة رمضانية متنوِّعة بين شربة الحب والسمبوسك والفول وأنواع من الحلويات، وتتميز سفرة رمضان بالفول المبخر، وهو طبق رئيس لا بد منه لأهل مكة، لأنه يمدهم بالقوة وتحمل صيام النهار مع العمل، وكذلك شراب السوبيا المصنوع من العيش المبلول بالماء والشعير مع السكر؛ ليروي العطش ويشعرنا بالانتعاش، ويتم تبادل الطعام مع الجيران؛ فيذهب الطبق ممتلئاً ليعود ممتلئاً بصنف آخر، وبذلك تتنوع السفرة عند كل أسرة من طبخها وطبخ جيرانها! ويتم تعويد الأطفال على الصيام إلى أذان الظهر، وفي اليوم السابع من رمضان يتم تبادل الزيارات بين الجارات لأخذ وصفات جديدة، ولم يكن الحرم مزدحماً مثل الآن، فكانت العمرة سهلة وميسرة، لتعود المرأة للعمل في بيتها مرَّة أخرى، كما كانت هناك أعمال للخير كثيرة، فالقمَّاش يرسل قماشاً، والفرّان يرسل الدقيق والخبز، والجزار يرسل اللحم لمن يحتاج، والنقلي يرسل النقل المكسرات، وهكذا، ويتم ذلك بسرية تامَّة حتى لا يضيع الأجر، كما أنَّ بسطات البليلة والبطاطس تمتد في الحارات في مكَّة وجدَّة، ليس من أجل البيع والشراء فقط، بل من أجل إطعام العائدين من صلاة التراويح، وأخذ ما يسد رمقهم بعد صيام يوم طويل، وإسعاد الأطفال، وزيادة رزق المسترزقين.
مشاركة :