إميل أمين يكتب: الوطنية الجديدة.. والسلم القيمي

  • 6/20/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

عبر العقود التي تلت الحرب الباردة حول العالم، بدا وكأن السلم القيمي والإجتماعي العالمي قد جرت عليه تغيرات مثيرة للانتباه، وتسنم هرمه بعد العسكريين وقادة الجيوش، طبقات إجتماعية ووظيفية من نوعية الرياضيين والفنانين ورجال الأعمال، وجميعهم لهم بلاشك دورهم الفاعل في المجتمع، غير أنه عند الجائحة تكشف للعالم أن هناك نوعا جديدا من الوطنية، وفئة لم يلتفت إليها العالم كثيرا، باتت هي المنوط بها إنقاذ البشرية، وهي فئة العلماء والأطباء وكل من له صلة بعملية البحث العلمي . على سبيل التندر المؤلم كتبت باحثة أسبانية في علوم الأحياء تعمل ضمن فريق متخصص في مكافحة الفيروسات عبر شبكة تويتر ما نصه: تعطون لاعب كرة قدم مليون يورو شهريا راتبا له، بينما يكون أجر باحث أو عالم في البيولوجيا 1300 يورو، إذا أذهبوا إلى “فلان” كي يجد لكم علاجا من فيروس كورونا “. الوطنية الجديدة التي حدثنا عنها البروفيسور “مارك لورنس” أستاذ العلوم السياسية في جامعة واشنطن، فتحت وستفتح أعين العالم على فئات مجتمعية كانت مهمشة حتى وقت قريب، كالممرضات والممرضين والأطباء، أولئك الذين يضحون بحياتهم من أجل إنقاذ المرضى والعالم. هؤلاء قال البعض إنهم من يستحقون أن نقيم لهم تماثيل وسط الميادين، وقد شاهد العالم بالفعل تضحياتهم الجسام والتي وصلت حد وفاة البعض منهم ونقلهم الفيروس الى بعض ذويهم عن غير قصد، وكأنهم كانوا وقود المعركة مع الفيروس اللعين، هؤلاء الذين لم يتوقفوا عند الدخل الضئيل الذي يتحصلون عليه، وقدموا الإنسانية على الربح السريع . كشفت أزمة كورونا عن تقصير بالغ جرى في حق الإنسان على حساب قضايا أخرى كالتسلح مثلا، وبناء الجيوش، فعلى الرغم من أهمية الاهتمام بالدفاع عن الأوطان والزود عن حياضها، إلا أن الأصل في الأشياء هو بناء الإنسان وتهيئة كل مايلزم لحفظ أمنه الصحي والإنساني وسلامة حاضره . أماطت الأزمة اللثام عن تقصير واضح وفاضح في البنى الهيكلية الصحية، مقارنة ببرامج أخرى، فالملايين لا تملك التأمين الصحي، ما إضطرهم إلى تحمل مصاريف كبيرة لإنقاذ أحبائهم، والقلة القليلة تمكنت من الحصول على أجازة مدفوعة. سلط كورونا الضوء على إشكالية إنسانية عميقة ومؤلمة جدا لاسيما في الحواضن الغربية، الأوروبية والأمريكية، تلك المتعلقة بالمسنين الذين تحلل أولادهم منهم لسبب أو لآخر، وهؤلاء كانوا في الصف الأول من ضحايا كورونا، سواء من جراء نقص الأدوية والمعدات أو قلة الاهتمام الاجتماعي بهم، وقد وجدت الشرطة الأسبانية دارًا كاملة للمسنين في أسبانيا كل القاطنين بها موتى من جراء الإنشغال مع الأصغر سنا، الأمر الذي أعاد إلى الأوروبيين ذكريات قديمة قاتلة عندما كانت المانيا النازية تنظر لغير القادرين على العمل بوصفهم عالة على الإنسانية. لقد تحولت صحة الانسان إلى بند من بنود السوق، الأمر الذي نبه إلى خطورته “ستيف سترلنج” نائب رئيس معهد روزفلت، والذي أشار إلى أن كورونا كشف عن فشل النظام الأمريكي القائم على السوق لتطوير وتصنيع الأدوية واللقاحات بحسب حديثه إلى مجلة “بولتيكو” الأمريكية الشهيرة . وباختصار غير مخل، حول كورونا الانتباه العالمي من الخطاب السياسي والاقتصادي، إلى الخطاب العلمي، وتم الرجوع إلى العلم والعلماء، ليكونوا هم السند والمعين الحقيقي للإنسان وللإنسانية، فمن غير إنسان صحيح الجسد والعقل لا مستقبل للبشرية . عرفت الإنسانية تيار العولمة كظاهرة حياتية تعمقت بشكل واضح خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية بنوع خاص، وفيها شعر العالم بأنه تجاوز فكرة القرية الكونية التي تحدث عنها عالم الإتصال الكندي الشهير “مارشال ماكلوهان” في ستينات القرن الماضي، وأصبحنا في زمن “الحارة الكونية” تلك التي استشرف ملامحها ومعالمها أديب نوبل نجيب محفوظ في رائعته المحظورة “أولاد حارتنا “. لكن المثير للجدل أن العولمة الإنسانية التي كثر الحديث عنها كدنا نراها تنهار بعد اشتداد الأزمة، فقد أغلقت دول على نفسها حدودها، ما رأيناه في حال إيطاليا بنوع خاص، والتي تخلت عنها دول الاتحاد الأوروبي الكبرى، لاسيما فرنسا والمانيا أول الأمر على الأقل، الأمر الذي جعل مسألة بقاء الاتحاد الأوروبي كوحدة واحدة بعد انتهاء الجائحة أمرًا مشكوكًا فيه . والمؤكد أن هذه ليست هي الجزئية الرئيسية في المشهد، بل التضامن الإنساني الذي رأيناه من دول أخرى حول العالم مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر وروسيا والصين، والتي أرسلت طائراتها المحملة بالمواد العذائية والأدوات والمعدات الطبية إلى الدول المصابة بالوباء . هذا التضامن هو القيمة الحقيقية المضافة والمستخلصة من الأزمة، فقد تبين للجميع أن حديث العولمة كان ينقصه الجزء الإنساني، وعليه سيكون من الحتمي على دول العالم بعد أن تحط كورونا رحالها، السعي حول نسق يعزز التنسيق والتعاون في معالجة القضايا العالمية، وكذا في تحسين نظام الحوكمة العالمية . والثابت أن العولمة الرأسمالية التي قلصت وهمشت الإنسانية لحساب جماعات المصالح على إختلاف أنواعها وأشكالها، سوف تضحى أمام مساءلة تاريخية عن الإخفاق الذي جرى في أزمنة كورونا، لاسيما التقصير في حق الشعوب في الداخل، وهذا ما لفت إليه “ريتشارد هاس” رئيس المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية، إذ اعتبر أن الوباء سيدفع بلدانا عديدة إلى إيلاء إهتمام أكبر بالشؤون الداخلية، أكثر منه بالشؤون الخارجية لبضع سنوات. أما البروفيسور “جون ايكنبيري” الأستاذ بجامعة برنستون الأمريكية العريقة، فيعتقد أن تفشي الفيروس سيضخ الزخم لدى أطراف مختلفة لمناقشة الإستراتيجية الغربية الكبرى، حتى أنه سيجعل المناهضين للعولمة يجدون أدلة جديدة تثبت وجهات نظرهم على الأمد القصير.

مشاركة :