"زهرة الصباح": عتاقيد المروى عليهم حلوة المذاق

  • 6/20/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

استهلم الروائي محمد جبريل التراث الشعبي والتاريخي في عدد كبير من رواياته، وهي سمة اتفق حولها دارسو وباحثو أدبه، ونموذجًا: رواية "زهرة الصباح" حيث جعل الروائي من قصص "ألف ليلة وليلة" إطارًا روائيًا، ومرجعًا لغويًا للرواية، مع تحديث الإطار الزمنى، والفضاء المكاني لألف ليلة وليلة الأصلية، حيث جرت الأحداث الروائية في زمن القاهرة المملوكية، وفي قلعة الجبل مقر حكمها. واستحدث الروائي فكرة "ما بعد الليالي"، حيث هناك الامتداد بعد الليلة الألف بتسعين ليلة أخرى بعد الألف ليلة المعروفة، وانتقى منها جميعا أكثر من مائة ليلة تمثل كتلا سردية تفسر على مستوى خيالي ما يتعلق بهذه الليالي من أحداث وتعليقات على الحكايات، وتفاعلات إنسانية واجتماعية خلاقة، من خلال "زهرة الصباح" الابنة الوحيدة لعبدالغني المتبولي كاتب سر الملك شهريار، وهو منصب قريبا من الوزارة. وتصف الرواية أن المتبولي كان بيده الحل والعقد والأمر والنهي، وهو المتصرف المطلق – باسم الملك - في كل أمر. أما "زهرة الصباح" فهي الفتاة التي خطبها الملك من أبيها، والتي تنتظر دورها بعد "شهرزاد" ابنة الوزير "دندان". وكان الملك - كما هو معروف - يروي ظمأ الإنتقام في صدره لخيانة زوجته له، فعصف ببنات الناس، حيث يسلم عروسه الجديدة لسيف مسرور السياف كل صباح. لكن نجحت "شهر زاد" برواية الحكايات أن تؤجل نية الملك المعروفة في قتلها، حيث اصطحبت معها أختها "دنيازاد" ونبهتها: "أدعوك لمجالستنا"، فتقولين: "يا أختى حدثينا حديثًا غريبًا نقطع به السهر واتركي الباقي لي"، فكان الشروع في الحكي من ذروة الأزمة، ثم تتابعت الأحداث الروائية تتدفق إلى الأمام في خط زمني مطرد، بعد سرد مجموعة في البداية من القصص الخلفية للشخصيات الرئيسة.  يحكى "المتبولى" لزوجته "رقية" أم الزهرة ولزهرته أيضا: "قال لها أبوها في وقفته على باب الحجرة: لا تخافي يا زهرة .. فلن تزفي إلى الملك، واستطرد فيما يشبه الهمس: هذه الليلة على الأقل. قال للدهشة في عينيها: فاجأت شهر زاد الجميع رواية حكاية، أجلت بقيتها إلى اليوم التالي، إنها حكاية تاجر مع عفريت .. أتى الصباح قبل أن تتمها"، فكانت الحكايات في الرواية "طوق النجاة" وحيلة "شهرزاد" لإطالة عمرها. ومن هذه اللحظة المأزومة عاشت أسرة "المتبولي" في ظلال الخوف منذ أن قال الملك للمتبولي: "خطبت ابنتك زهرة الصباح لنفسي". وينطلق الهمس الداخلي الصاخب: "هل أنجب وأربي وأحب واختزن التفصيلات الكثيرة والذكريات ليحصد الملك ذلك كله بضربة سيف". وعن طريق صلة "المتبولي" الطيبة بقهرمانة القصر "نجوى" والتي يثق بها شهريار فهي من أقرب مستشاريه إليه، وحيث يتركها خلف الستائر تستمتع لحديث "شهرزاد"، والذي تختمه كل ليلة بقولها: "وأين هذا مما سأحدثكم به الليلة المقبلة إن عشت وأبقاني الملك"، ثم تنقله "نجوى" للمتبولي الذي يعيد روايته لزهرة ورقية، ويتأجل خوفهم لليلة أخرى. وتمضى الرواية في خطها الروائي المشوق بتفصيلات كثيرة، وخصبت ذاتها بلمحات من ألف ليلة وليلة وسير شعبية، عبر لغة قريبة من لغة الحكي في الليالي، وتستمد مفرداتها وسياقها الثقافي. والرواية تحقق ما وراء نص الليالي على مستوى خيالي، بمعنى أنها تقدم كواليس هذه الليالي وتفسيرها الاجتماعي والسياسي، وهي تحقق ما أشار إليه نقاد من أن المبدعين الذين استلهموا "ألف ليلة وليلة" في ابداعهم قصدوا إلى القيمة الرمزية لليالي بما فيها من أبعاد أسطورية واضحة، وجعلوها مرآة لتناول المجتمع المعاصر. وأرى أن الروائي محمد جبريل يكتب روايته وعينه على الواقع رغم المرجعية التراثية الحميمة. والثيمة الموضوعية الرئيسة في الرواية في تأويلي تدور حول التطهير بالفن والطب بالحكاية، حيث حدث الإبدال في شخصية الملك "شهريار" من ظلم الناس إلى البر بهم ورعاية شأنهم، حيث انطلقت الرواية من عقدتها حول "شهريار": "الملك هو كل شيء .. الوزراء والأمراء وعامة الناس بين يديه، دمى لا حول لها ولا قوة. يتهددهم الموت لأسباب تافهة، أو بلا سبب. يزهق أرواحهم متى شاء، ويخلى أرواحهم في الوقت الذي يحدده". وكانت الأزمة شاملة: "ضج الخوف في نفوس الناس. قل دخل البلاد، وخلت الخزائن من الأموال، عاش الجميع حالة دائمة من الخوف، والتوتر، وتوقع المجهول، دون أن يعرف الناس متى ولا كيف".  ثم مضت الأحداث في طريق الفعل الفني الخلاق: "من كان يتصور أن الحدوتة وحدها هي التي أفلحت في وقف مسلسل الإعدام؟!". حيث إن الحكايات بتعبير الرواية: "أذهبت ما بنفسه من مشاعر غاضبة وشفت صدره"، فمع التصاعد الدرامي كان الإبدال للثوابت السلوكية والقيم الفكرية لشخصية الملك الذي جرى مداواة وجدانه بالحكايات.  تقول الرواية: "غابت اليد الباطشة، والنفس التي تغضب لأقل سبب. حل تباسط وحسن إنصات، وتفهم للظروف، ومؤانسة .. نادى في الناس بالأمان والإطمئنان، فلا يشوش على أحد، ولا يؤذي أحدا في عرضه أو ماله أو حريته، ولا يواجه العقاب دون سبب، أبطل المكوس والرسوم والمظالم التي كان أحدثها من قبل". فقرب نهاية الليالي الألف أعلن توبته وتبصره بعاقبة أمره بعد تصاعد وتيرة احساس الناس بالغضب. كان الفن درب المقاومة الأثير في الرواية، وأيضا المقاومة بالحب، حيث قام "المتبولي" بتزويج ابنته "زهرة الصباح" في الخفاء من حبيبها الجار التاجر الشاب سعد الداخلي، بتحدى القهر بالتقدم إلى الأمام، وامتدت مظلة الخوف لتشمل الأسرة جميعها فلم يصبح الخطر فقط يهدد "زهرة الصباح" بل يهدد الجميع بهذه الخطوة الشجاعة.  وشخصيات الرواية دائرة في إطار الرواة والمروى عليهم، الرواي الرئيس في الرواية "شهرزاد"، والمروي عليه "شهريار"، أيضا الرواي القهرمانة "نجوى" والمروى عليه "المتبولى"الذي يتحول بدوره راويًا لزوجته "رقيه" وابنته "زهرة الصباح" التي تصبح بدورها راويًا لزوجها "سعد الداخلي"، فدائما شخصيات "المروى عليهم" تتحول لتكون رواة جدد، لذلك نجد ديمومة هذا التصعيد فتتسع حلقة الرواة في شكل عنقودي لتصل إلى مستوى المجتمع جميعه. تقول الرواية: "تحولت القاهرة إلى سامر كبير أبطاله الرواة والقصاص والهلالي والزناتي وسيف بن ذي يزن وبيبرس والسفيرة عزيزة وعنترة وحمزة البهلوان والخضر". والناس أنفسهم كما تقول الرواية: "ينقلون الحكايات إلى أنديتهم ومجالسهم يزيدون فيها بالتهويل والإختلاق والإغراق يضمونها ما يشغلهم التعبير عنه، أو التنفيس عما بداخل نفوسهم ازاءه"، والمتلقين هنا – المروى عليهم - يؤثرون في الرواي الذي يقوم بإبدال الحكايات والزيادة والتحوير فيها طبقا لتلقيهم  الفاعل، فكأنهم يؤلفون الحكايات مع الرواة، فهو رواة ضمنيين للحكايات.وإذا كانت "شهرزاد" استطاعت أن تستل الغضب والحقد الأعمى داخل وجدان "شهريار" بوسيلة الحكاية، وأن تعيده مرة أخرى لطريق العدل والإنصاف، وهذا التأثير الفذ للحكايات تحقق على أكثر من مستوى بالرواية، على مستوى فردى مثال التأثير في نفس "زهرة الصباح"، فتبدل حالها ووجدت ترياقًا لخوفها المهلك، تقول الرواية: "لم تعد أيامها مقصورة على الطعام والثياب والتطريز والوشى والنوم والملل، أو حتى الجلوس بمفردها – لساعات - تستغرق فى التأمل والخوف والأحلام. نقلتها الحكايات إلى دنيا جديدة، لا عهد لها بها. غادرت البيت إلى قصور وبيوت وشوارع وأزقة. روى لها عن خلفاء وملوك وسلاطين وأمراء ووزراء وجند وتجار وفتوات وقطاع طرق ومطاريد وعلماء دين ومتصوفة وحملة مصاحف وأقلام وخناجر وسياط وسيوف .. طاف بها الميادين والشوارع والأسواق والأزقة. وتوالت المشاهد في الموصل وسامراء وخراسان والأهواز وبغداد والقاهرة والمغرب. نزلت أعماق البحار، وطارت إلى السموات، وجزر الواق الواق، وجزر بحر الروم، ..." أما السمو بالحكايات على مستوى جمعي فتحقق بعزف عناقيد "المروى عليهم / الرواة"، ومن خلال هذا المعبر تحقق القاسم الكبير في مشروع الروائى الكبير حول تمحيص الشخصية المصرية والوقوف عند مخزونها في المقاومة، فالبطولة المطلقة في الرواية في تأويلي هي للشعب المصرى، الذي يهتف للنصر لأبطاله الشعبيين ومواطن الظفر والعزة في حكايات الحكائين في الخفاء بعد أن حرمها "شهريار" على العامة، ففروا يجتمعون إلى القصاص يحكون الحكايات في القرافات، وقد وضعوا الحراس منهم خارجها خوفًا من بطش المستبد عدو الحكايات.  وكأن هذه الحكايات تراثه الذي يتمثله الشعب في وجدانه وهو يحيا مشروع المقاومة بالإختزان والإعتراض على وحشية "شهريار" وقتله للفتيات والعصف بمقدرات الناس، فتمثلت البطولة في محمد النجار تاجر الأخشاب بالفحامين، والبساني معروف خضر، والشيخ بهاء زينهم، والشيخ طاهر العجمي، وعقيل العداس، وأيوب سيبان الخياط، وخلف الفلاحي بالخرنفش، ومعين الدين بيبرس الحداد في الشارع الأعظم وغيرهم. إنها استجلاء وبيان وإيضاح بطولة "الناس العاديين"، وتعبير "العاديين" ذكره الروائي نفسه في حديثه حول تجربة استلهامه التراث في إبداعه الروائي.

مشاركة :