يواصل القاص السوري مصطفى تاج الدين موسى في مجموعته القصصية الأخيرة "ساعدونا على التخلّص من الشعراء"، مشروعه القصصي الذي اختار فيه طريقا خاصا، لا تغيب عنه السوداوية والغرابة لكنه في نفس الوقت يضيء مناطق معتمة عن طريق الخيال والاستعارات التي يتقنها الموسى بشكل لافت وهو ما تؤكده قصص المجموعة. أول ما يلفت في مجموعة مصطفى تاج الدين الموسى القصصيّة "ساعدونا على التخلّص من الشعراء" عناوينها؛ فالعتبات بقتامتها، وفي إعلانها عن النهايات، ستارة مسرح تخفي خلفها أربعة وسبعين مشهدا. إنّما تنفتح الستارة على معماريّة تهجينيّة من شخصيّات وأدوات غير متجانسة تؤثّث لأمكنة وكأنّها لوحات تكعيبيّة، وسرعان ما تتفكّك لتحلّ مكانها قطع وأكسسوارات أخرى. والسمة الغالبة للنصوص تتبدّى في تصالح المتناقضات وليس في تجاورها وحسب؛ فالحدود المائلة تسمح بوجود مناطق رمادية حيث تضيع معالم البياض والسواد. وإذا كان الإعلان في نبذة الغلاف عن أنّها المجموعة القصصيّة الأخيرة لصاحبها مصطفى تاج الدين الموسى، فما المغزى من ذلك، كما جاء في بعض عناوينها، مثل "آخر المعزّين"، و"اللوحة الأخيرة"، و"آخر الأصدقاء" و"نهاية حفلات التقيّؤ"؟ هل أنّ هذا التبعثر وتلك القتامة يليقان بالنهايات؟ فساد المدينة والرسوم المتحركة يمّحي المأزق المنطقي حين نعي بأنّ الواقع أكثر غرابة ممّا يُحكى عنه، إذا ما استلهمنا قول الراوي، في قصة "أشياء لا تستطيع السماء أن تحكيها للبشر"، "كأنّ للخيال حدودا في الغرابة، أمّا في الحرب فلا حدود للغرابة". تقنيات التناوب وتبادل المواقع والأدوار تخرج من النصوص لتخترق ذهنيّة القارئ حين تتّخذ البشاعة صفة العادي؛ فتعزّز مفهوم التغريب بوصفه نزع الألفة عن المظهر الطبيعي وكسر التعوّد، وتعمل على تقريب البعيد غير المقبول في ما هو خارجها، وتجعل الغريب مألوفا. تأخذ القارئ إلى عالمها، وقد لا يجد في اللامنطق غرابة، ولا يرى الوهم المجسّد إلا أنّه الحقيقة البائسة الوحيدة. عالم مجازيّ يوازي الواقع الكابوسيّ عالم مجازيّ يوازي الواقع الكابوسيّ الردّ الفنّي المناسب على لامنطقيّة الحرب العابثة بكل شيء هو منطق الرفض؛ رفض اللامنطق. بل إنّ الغرابة تغدو شخصيّة تتمايل مخمورة في مدن الحروب الطائفيّة وبين فوضى الأشياء، وتصبح الجثث – في القصة نفسها – بين حَيين يحتربان سعاة بريد ورسل محبّة وأمل، يشهد على هذه المعجزات بعودة الجثث إلى الحياة بفضل الرسائل المخبوءة في جراحها المخيطة، طبيبان من كلا الطرفين – الطائفتين. "في أعماق هذا الصدر رسالة مجنونة كتبتها عجوز مجنونة لن يستطيع الدكتور إخراجها.. استحال الشاب رسالة تقف أمامه ثم تمضي مبتعدة دون أن يستطيع إيصالها لصاحبها". لا تصل الرسائل إلى عناوينها، وتستمرّ كتابة رسائل الحب، محافظة على اليقين بقرب نهاية هذا التشويه. نخال صوت الراوي يقول إنّ في الحب إحياء للمدينة، وفي الكتابة خيط أمل لا يُقطع مهما رقّ وهزل. الازدواج القيمي – المعياري عنوان المدينة الفاسدة، ومثار ضحك ساخر. كما جاء في قصةّ «"ماسح الأحذية"؛ حيث كان ثمن الوسام الممنوح للصبي مهنّد يساوي تلميع ثلاثين حذاء لكبار شخصيات الدولة تنادوا مع الصحافيين لتصويره؛ ذلك تكريما له على تلميع حذاء إسمنتي لتمثال ضخم في الحديقة.. لكنّه باعه في سوق الخردة. هو ماسح الأحذية الذي لم يجد من يناديه لتلميع حذائه فيحصل على قوت يومه من الخبز. وفي "غرفة الإعدام" يختفي المعتقل ويُرى شبحه يجوب بين الزنزانات، ويوجد على المنصة مشنوقا بدلا منه سجّانوه ومدير السجن والشيخ والطبيب والشرطي وموظف وزارة الداخلية. كيف حدث ذلك؟! ليس مهما، لأنه يحدث في عالم غريب، إنّما المهم ما هو خارجه في عالم الرؤية السرديّة، بأن تتجسّد الأرواح المعذّبة، منتصرة على ظروف تهميشها وأدوات قمعها وتغييبها، لتشاغب مع خيط دخان سيجارة. لا عدل معها إلا في حضور إله الخيال هذا! يندرج القاصّ في عوالم نصوصه بوصفه ساردا ذاتيّ الحكاية، يحكي قصص منفاه، ويستعيد آخر وجوه ودّعها قبيل رحيله، ووجوها غريبة التقاها في مدينته البديلة، وأخرى تركها في إدلب وحلب والشام، تقيم في أحلامه وذاكرته، وهي – تلك الوجوه – سوف تغادر تباعا عالم الواقع لتستقرّ في عالم الحكاية. كما تقفز شخصيّات أخرى لتقاسمه الحكايات، هي سكّان الصور الفوتوغرافيّة والرسوم والمسرحيّات والروايات. في غربته إلحاح لطفولة هاربة تتسرّب من ثقوب الذاكرة، تعبث ثم تعود لتنام نوما قلقا؛ فلا شيء ثابت، ولا شكل يطمئن لديمومته، بل يعاد تشكيله باستمرار. ثمة حركتان إذن، متوازيتان في الملفوظات السرديّة؛ فإزاء الأحداث الكابوسيّة في الخارج، تبرز مشاهد ممسرحة، شفيفة تارة، وشبحيّة تارة أخرى. النزعة الإحيائيّة في الرسوم المحرّكة، وهي التقنية الأبرز، تتواصل في ثنائيّة الموت والانبعاث، مع قصة "حكاية إنسان غير حقيقي"؛ إذ تقفز من الورقة شخصيّة ولد رسمه طفل لتؤنس وحدته. العجيب أنّ الرسم يشكو من خيال الطفل الذي سجنه في الورق. إنّما المفارقة المؤلمة في سخريتها أنّ الرسم يتحرّر ويغدو حقيقيّا ليشعر بوجوده حين يصبح الطفل هباء بعد حادث اصطدام قاتل بسيارة؛ علّ الرسم المحاكي للطفل يشهد على من كان هنا وغادر. فلا عزاء وسط هذا الفقد إلا به. كما تظهر الطرفة الطفوليّة المحبّبة في ما يشبه شريط "أنيمايشن" في قصة "قلب أم"؛ يصف الراوي المتكلّم قلب أمّه في الصورة الشعاعية، قائلا "كم هو مرتّب قلب أمي!". شاهد في كل قسم منه الثياب مغسولة ومكوية جيدا ومعلقة بعناية، والكؤوس والأطباق تلمع، وثمة طبخة تفوح منها رائحة شهية.. في منتصف قلبها شاهد صورة للمرحوم والده، ورفوفا عتيقة عليها حكايات قديمة، وأدعية لطيفة وأسماء أفراد الأسرة. وفي الربع الأيمن من قلب أمه على الصورة الشعاعية شاهد فأرا داكن اللون جالسا فيه يدخن بنهم وصمت.. ليمعن في الاستغفال وادّعاء الجهل بما لا يناسب سوى عقل طفل "فأر في قلب أمي؟!.. هذا هو سبب ألمها؛ اللعنة عليه وعلى سيجارته". في غربته خمّن الراوي المتكلّم بأنّه سيصاب بأزمة حادة للذكريات، فحمل معه صورا توثّق تاريخ الابتسامات العائليّة؛ لم يستعد وجوده إلّا حين ترك الحياة فوق الرصيف، وعاد مطمئنّا إلى صوره العتيقة، في قصّة "من طردني من صوري القديمة". في مشهد تمثيلي يصوّر ثنائيّة الغربة/ الألفة؛ فعلى الرصيف استوقفه رجل غريب ليفصح أنه هو من طرده من صوره، وبغرزه سكينا في داخل صدر الرجل يصاب هو فيخرج من الجرح العميق أشخاص يشبهونه في سنوات مختلفة من طفولته وحياته ليعودوا تباعا إلى الصور. غير أنّ العيش يتبدّى مؤقتا مع سكّان الصور ودفء الزمن الجميل. الاستجابة الفنيّة لكراهية القبح هي تصويره بجماليّة، والهرب منه في المجاز والاستعارات. استطاع بطل الحكايات الذي يؤشّر إلى القاصّ، أن يهرّب كتبه دون تمكّنه من إنقاذ أمّه، راسما مأزقا إيمانيا وسط هذا العبث العنيف؛ في قصّته "تهريب أبطال دوستويفسكي من إدلب"، تكرار لما يشبه اللازمة الجنائزيّة "ثلاثة مؤمنين بالله ينقذون شابا غير مؤمن"، إنّما المؤمنون في الحزن يشبهون تماما الملحدين في الحزن، كما يعبّر. قضى الثلاثة وكان هو الناجي الوحيد. العيش استعاريّا شخصيات غارقة في سواد الحرب (لوحة للفنان إسماعيل الرفاعي) شخصيات غارقة في سواد الحرب (لوحة للفنان إسماعيل الرفاعي) ووصلت شخصيّات روايات دوستويفسكي إلى الريحانية – البلدة الحدوديّة التركية – "كما يصل النازحون على أكتافهم صرر ملابسهم مثل أيّ نازحين على عجل من الحرب". لكنّها كانت مع وصولها تنصب الكمائن الكابوسية له، وتذكّره بموت من أنقذه، في تلميح إلى وجعه لذنب يخال أنّه اقترفه في مصادفة نجاته، "فلو أن أهل إدلب من سكان الروايات لنجوا من هذه الحرب". في المقلب الآخر، ينكشف الوجه السلبي للاستعارة، في أن يعيش من رسم لنفسه دورا طليعيا على هامش الأحداث، في الكلام المبتذل والممجوج، وإيهام الرأي العام بالتفاعل والسعي للتغيير. هذه الثيمة النقدية في صميم معنى الكلمة والدور الثقافي، تجسّدت في قصتي "ساعدونا على التخلص من الشعراء" و"لص الفيسبوك". فعصابة الفرسان الخمسة قبض عليها وعذّب أفرادها الأربعة في الزنزانة مع بقايا بشر، حتى فاضت أرواحهم بعد ليلة تعذيب عنيفة. غير أنّ أطيافهم اخترقت جدارا متّبعة شبح الفارس الخامس ليلجوا أجمل خمّارة في العالم. قبض عليهم لأنّهم أرادوا نشر ثقافة الخمر بين الناس ليصبح كلامهم أعذب، وأمزجتهم أفضل، وهكذا يتخلّصون من الشعراء وظاهرة انتشارهم الغريبة مع قبعاتهم السوداء وثيابهم الرثّة وكلمات أغانيهم غير المفهومة؛ "يتكاثرون بالانشطار بشكل غريب يملأون الشوارع.. يتعاطون الخمور على الأوراق فقط". ثمة دائما حياة موازية لما يشبه حطام الحياة، حياة مشتهاة ترسمها كلمة أو لوحة أو طرفة تخِز وتُضحك في آن. نخاله يقول ألّا شيء يستحق التكريم في كلمة خالدة غير أصوات من مرّوا في هذه الزنزانات في صعودهم الأخير. كما أنّه قرّر في القصة الأخرى "لص الفيسبوك" إعادة القصص لأبطالها الحقيقيين؛ يمثّلهم مراهق من قرية اليوسفيّة قتل أفراد أسرته ليعيش متشردا بين التلال خلال الحرب. وفي جملة دالّة تختصر رؤيته، يقول "أنا الكاتب الذي غادر البلاد في الأشهر الأولى للحرب.. لأعيش متنقلا بسعادة بين المدن الأجنبية وأكتب قصصا جميلة عن الحرب القاسية التي لم أعشها.. أنا مثل أولئك الكتّاب الأنذال الذين يبدعون أدبا جميلا عن مآسٍ لم يعيشوها". يبني القاصّ عالما مجازيّا يوازي الواقع الكابوسيّ، ململما عناصره المتشظيّة وكأنّها انفصلت عن الواقع، كما في اللوحات التكعيبيّة، ليصوغ من القبح والحطام جمالا يهرّب إليه كل ما كان جميلا، وكل من غادر مدنا لم تعد صالحة للحياة. شخصيّاته من المهمّشين والمتروكين والمفقودين، أطفال وأرامل وثكالى باحثات عن بقايا دفء في أثواب حبّ. في كونه المتخيّل، تتبدّل الأسماء وتتجسّد الأفكار وتتشخّص الجمادات؛ فيغدو الانتحار شبحا يرتدي ثوب الحبّ يراقص الأرملة ويحضنها، في "الأرملة وثياب الحبّ"، والصرصار ما هو إلّا الشعور بالتفكّك والاغتراب والعزلة وكراهية العالم، إلى أن اختنق في قلب صاحبه في قصّة "لعبة الولد الوحيد" حالما استطاع إدخال الفرحة إلى قلوب أطفال مخيّمات اللاجئين. في قصص مصطفى تاج الدين الموسى الأربع والسبعين (الصادرة عن دار نون، 2019) بعد خمس مجموعات قصصيّة له صدرت سابقا، وحاز بعضها جوائز عربيّة، حضور للغياب في مواجهة كل سلطة، وتخليد أرواح يليق بها البهاء.
مشاركة :