توفّر تصريحات الرئيس المصري القوية بشأن الملف الليبي وتلويحه باستخدام القوّة العسكرية ضد الميليشيات المدعومة من قبل تركيا، ذريعة نموذجية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان للضغط على قطر ومطالبتها بضخّ المزيد من التمويلات في الصراع بليبيا، وذلك على أساس تخويف الدوحة من انتصار مصري يدرك زعيم حزب العدالة والتنمية جيّدا أن القيادة القطرية مستعدّة لتقديم أكبر “التضحيات” كي لا تراه يتحقّق على أرض الواقع. أنقرة- سارع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الاتصال هاتفيا بأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، طالبا مضاعفة التمويلات القطرية للجهد الحربي في ليبيا الذي انخرطت فيه أنقرة بقوّة دعما لميليشيات حكومة الوفاق ضدّ الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر. وجاء ذلك بعد التصريحات القوية للرئيس المصري عبدالفتّاح السيسي التي لوّح فيها باستخدام القوّة العسكرية لفرملة اندفاع ميليشيات الوفاق المدعومة تركيًّا باتجاه مناطق ليبية ذات صلة مباشرة بالأمن القومي المصري. وبحسب مطّلعين على كواليس السياسة التركية، فإنّ أردوغان الموصوف من قبل معارضيه وخصومه بالانتهازية، دأب على استخدام الملف الليبي، وقبل ذلك الملف السوري، لابتزاز قطر والحصول على أكبر قدر ممكن من أموالها عن طريق تخويف قيادتها من هزيمة معسكر الإسلاميين المتشدّدين الذين تدعمهم الدوحة، ما سيشكل بالنتيجة انتصارا لخصومها ونهاية للدور الإقليمي الذي تحاول أن تلعبه منذ سنوات. وقال الإعلام الرسمي التركي إنّ أردوغان بحث في اتصاله الهاتفي مع أمير قطر “سبل تطوير العلاقات الاستراتيجية بين البلدين”، وإنّ النقاش تطرّق خلال المكالمة الهاتفية إلى “عدد من القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك”. غير أن دبلوماسيا تركيا سابقا توقّع أنّ “موضوع المكالمة الهاتفية مادّي صرف”، قائلا إن حكومة أردوغان “لا تملّ من مطالبتها للدوحة بإرسال المزيد من الأموال لإدامة زخم العمليات العسكرية التركية في سوريا وليبيا”. وقال الدبلوماسي الذي طلب عدم التصريح بهويته والاكتفاء بالإشارة إلى عمله سابقا في منطقة الخليج، إنّ تصريحات الرئيس المصري تمثّل ذريعة نموذجية ضمن الذرائع التي تستخدمها تركيا لحث قطر على ضخّ المزيد من الأموال في الصراعات التي تخوضها تركيا في الإقليم، مؤكّدا “أن أموال الغاز القطري لعبت دورا كبيرا في تمويل تلك الصراعات والحروب التي لم تكن تركيا تستطيع تحمّل أعبائها في ظل الأزمات الاقتصادية والمالية المتلاحقة التي شهدتها خلال السنوات الماضية، وصولا إلى الأزمة الحالية الناتجة عن جائحة كورونا التي أوقفت الحركة السياحية التي تمثّل موردا هامّا للخزينة التركية”. وخلال الأيام الأخيرة، سجّلت الليرة التركية هبوطا جديدا بأكثر من واحد في المئة مقابل الدولار الأميركي لتلامس أدنى مستوى في حوالي شهر. وليست الأزمة الحالية هي الأولى لتركيا حيث شهد اقتصادها على مدى السنوات الماضية عدّة عثرات يربطها الملاحظون بشكل مباشر بطبيعة السياسة الخارجية التي تسلكها تركيا وتتميّز بكثرة الصدامات وإثارة المشاكل مع أكثر من طرف إقليمي ودولي. واحتاجت تركيا في ظلّ هذا الوضع إلى مساعدة مباشرة من "حليفتها" قطر، حيث بلغ حجم ما قامت الدوحة بضخّه من أموال في الاقتصاد التركي على شكل ودائع واستثمارات إلى حدود منتصف سنة 2018، حوالي 15 مليار دولار، وفق ما هو معلن بشكل رسمي من الحكومة القطرية، بينما تؤكّد مصادر قطرية وتركية متطابقة أنّ الرقم المذكور لا يشمل كل التمويلات القطرية لتركيا وأنّه يستثني هبات مباشرة من القطريين قادةً ورجالَ أعمال تقدّر بملايين الدولارات. وأكّد الدبلوماسي التركي السابق أنّ بحث "العلاقات الاستراتيجية" بين أنقرة والدوحة عنوان فضفاض دأب على تصدّر عناوين الأخبار الرسمية بشأن الاتصالات والمحادثات بين المسؤولين والقادة الأتراك والقطريين من مختلف المستويات، مستدركا بأنّ القيادة التركية لا تناقش في العادة مع القيادة القطرية تفاصيل الملفّات التي تعمل عليها مثل الملف الليبي، ولا تتعرّض سوى للعناوين الكبيرة لإيهام الجانب القطري بأهميته وبأنّه شريك فعلي في تلك الملفّات، بينما دور قطر يكاد يقتصر على التمويل وانتظار ما يمكن أن تقوم به تركيا وجيشها في هذه الساحة أو تلك. وعلى هذا الأساس يعتبر قطريون أنّ علاقة بلادهم بتركيا غير متكافئة وتجعلها عرضة للاستغلال والابتزاز خصوصا في ظلّ العزلة التي تعانيها بعد مقاطعة أربع دول عربية لها بسبب سياساتها المضادة لاستقرار المنطقة وربطها علاقات مع التنظيمات الإرهابية. وكانت دوائر قطرية معارضة لسياسة الشيخ تميم بن حمد ووالده الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني قد صعّدت من تحذيراتها من الابتزاز التركي لدى الكشف عن تفاصيل تضمّنتها وثيقة مسرّبة تظهر وجود اتفاقات سريّة بين أنقرة والدوحة تتيح لتركيا التدخّل العسكري على الأراضي القطرية من دون ضمانات واضحة لقطر. الدوحة لا تملك ترف رفض المطالب المالية التركية المجحفة بعد تورطها إلى جانب أنقرة في صراعات دامية وملفات قذرة ويقول أحد المعارضين القطريين إنّ ما تروّج له قطر وتركيا بشكل مكثّف وتعرضانه باعتباره “تحالفا استراتيجيا”، ليس سوى تحالف “أعرج نظرا لعدم تكافؤ طرفيه، ما يجعل قطر المعزولة في محيطها القريب، عرضة للاستغلال وحتى الابتزاز من قبل تركيا التي تفوقها قدرات في كل المجالات”. وتلتقي قطر مع تركيا في دعمهما للجماعات المتشددة والإرهابية ما عرّض علاقاتهما مع العديد من بلدان المنطقة والعالم إلى هزات وتراجعات. كما عرّضت سياسات الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان بلاده إلى خسائر اقتصادية ومالية مباشرة، لكنّ علاقته المتينة بقطر تتيح له فرصة للتعويض عن بعض الخسائر من أموال الغاز القطري. وتتحدّث مصادر غربية عن بلوغ تكاليف التدخّل التركي في الصراع الليبي سقوفا عالية تتجاوز قدرات تركيا خصوصا بالنظر إلى المصاعب الاقتصادية والمالية التي تواجهها منذ سنوات، ما يجعل الأنظار تتّجه صوب قطر كمموّل رئيس، وربما وحيد، للمجهود الحربي التركي المرهق. ويتساءل البعض عن حقيقة الموقف القطري من كثرة الطلبات المالية التركية، وعن مدى قدرة قطر على الاستجابة لتلك المطالب إلى ما لانهاية في حال طالت الأزمة الحالية الناتجة عن جائحة كورونا وتأخّرَ تعافي قطاع النفط وارتفاع أسعاره من جديد، لكن البعض يستدرك بالقول إنّ الدوحة لا تملك في الوقت الحالي ترف رفض الطلبات التركية مهما كانت مجحفة، بعد أن تعمّدت أنقرة تكريس عزلتها عن محيطها الخليجي والعربي واستدرجتها طيلة سنوات للمزيد من الغرق والتورّط في صراعات معقّدة وملفّات قذرة لم يعد بإمكانها الخروج منها والتراجع عنها بسهولة.
مشاركة :