المراوغة ركنُ أساسي في النصوص الإبداعية، ولا تخلو بنية الأعمال الأدبية من إستراتجيات المراوغة، ومنها تتوالدُ عناصر التشويقُ، فبالتالي يتفاعلُ المتلقي مع مناخ النص لكن نادراً ما تصادفُ عملاً أدبياً يدشنُ مراوغته من عتبة العنوان، وقد يتخذُ هذا المنحى دلالات الإستغرابِ إذا لاحت المفارقة من العتبات الأولى بفعل تجاور ما يبدو متعارضاً. كيف يمكنُ إختيار مفردة "النسيان" عنواناً للعمل الأدبي إذا كان المرادُ منه هو سردُ سيرة الذات المتشابكة مع الغير. ألا يكون الهدفُ من لملمة نثار الذاكرة في المدونات السيرية هو صد موجة النسيان؟ هذه الأسئلة ضروريةُ قبل أن يفتحَ قوس الحديثِ على ما سجلهُ الكاتب الكولومبي إكتور آباد فاسيولينسي في كتابه الموسوم بـ "النسيان"، وهو عبارة عن سيرة روائية، فالجزء الأخير من المفردة التجنسية قد تبهتُ في ذهنية المتلقي ما أنْ يتابعُ فصول الكتاب حيثُ يتمُ توثيق الأحداث والوقائع بالتواريخ، هذا إضافة إلى إيراد التفصيلات الدقيقة بشأنِ عدد أفراد العائلة ومنابتها الأولى وأصدقاء الأب والإختلاف العقائدي بين الطبيب وزوجتهِ. من المعروف بأنَّ العنصر الأهم في السيرة الذاتية حسب ما حدده فليب لوجون هو التطابق بين المؤلف والراوي، وهذا ما يؤسسُ للميثاق بين صاحب السيرة والمتلقي، وبدوره لا يخالفُ إكتور آباد تلك الركيزة الأساسية في مرويته الذاتية. أكثر من ذلك فإنَّ العلامات المبثوثة في تضاريس النص تدعمُ الخط اليساري إذ يمررُ الكاتبُ مقتبسات من مقالات نشرها والده الطبيب ناهيك عن تسجيل تواريخ وقوع الأحداث المؤثرة على حياة العائلة والإشارة إلى شخصيات قد أخذت مناصب سياسية مهمة في كولومبيا. إذاً فإنَّ كل هذه المعطيات تحتمُ قراءة النص بوصفه سيرة ذاتية رغم وجود المصطلح التركيبي المخاتل في تعريفه. حظوة الإستثناء يعودُ المؤلف إلى فضاء البيت الذي نشأ فيه فكانَ المكانُ مطبوعاً بحضور لافت للأنثى، ما حدا بالأب أن ينعمَ على ابنه الوحيد تعاملاً إستثنائياً بحيثُ قد توقعَ عدد من أقارب العائلة بأن الأبَّ يفسدُ شخصية ابنه بتعامله المبالغ فيه، وما يتمتعُ به الأخيرُ من الحظوة والإهتمام يؤدي به نحو التخنث. بالمقابل بوصل تعلق الابن بوالده لدرجة أنه أبلغ الراهبة رفضه الذهاب إلى الفردوس طالما أنّ أبوابها لا تُفتحُ لوالده الذي لم يواظب على حضور القداس، والصلوات. وهذا الموقف يذكرك بما نقلته سيمون دوبوفوار على لسان أمها التي قالت "أودُ أن أذهب إلى الجنة ولكن ليس وحدي ليس من دون بناتي". يعترفُ المؤلفُ بأنّه قد استمد الشعور بالأمان من وجود الأب بحيثُ كان متأكدا من أن لا شيء يصيبه بالمكروه وهو يعيشُ في كنف آباد جوميس. وما أكسب هذا الجو الشعور بالإستعلاء لدى الابن إذ أدرك ما يجبُ تجنبه في حياته اليومية، وتفهم بأنه لا يحق له إيذاء أخته الصغيرة، ولا يجوز عبور الطريق دون تنبيه، وعندما شارك مع أقرانه الأطفال في حملة الرمي بالحجارة على منزل الرجل اليهودي غضب عليه الوالد، وأخذه إلى السيد مانيبيتش ليعتذر له شخصياً. ويتعلمُ إكتور آباد من هذه الواقعة درساً في غاية الأهمية وهو ضرورة الربأ بالنفس من الإنسياق وراء غريزة القطيع. واللافت فيما يستعيدهُ الابن من تصرفات الدكتور جوميس هو موافقته على إرجاء التحاقه بالمدرسة حين لاحظ بأن الإلتزام بمواعد المدرسة، لا يزيدُ لدى الطفل إلا الشعور بالتثاقل. وفي العام التالي أصبح متشوقاً لحياة المدرسة، وما أراد المكوث بالبيت، وخلال سنوات التعليم الإبتدائي والثانوي والجامعي لن يتغيب الابن عن درس واحد، فعملية التعليم لا بدَّ أن تكون مصدراً للسعادة برأي جوميس، إذ كان يرددُ "خير وسيلة للتعليم السعادة"، وكتب في المفكرة التي عثر عليها إكتور "إذا أردت أن يكون ابنك بخير فاسعده، وإذا أردت أن تجعله أفضل حالاً فزده سعادةً". عليه فإنَّ الابن حين يقرأ رسالة كافكا "إلى أبي" أرادَ أن يحاكي صاحب "المحاكمة" في كتابة رسالةٍ إلى والده لكن بمضمون مختلف ومواقف متضادة ومشاعر نقيضة لما ورد في مرافعة كافكا ضد الأب. إذاً فكان الدكتور جوميس معاكساً في أسلوبه لصورة الأب النمطية في مقاطعة أنتوكيا. ولم يجد ما يبرر خشونة التعامل مع الأبناء فيما تبدت شخصية الجد أنطونيو صارمة إذ كان يضمرُ له الجميع إحتراماً مشوباً بالخوف. وحده جوميس تجرأ على مشاكسته، ويشير المؤلف إلى إختلاف آخر بين أنطونيو وابنه جوميس، فالأول كان شغوفاً بالأسلحة بينما الثاني نفر ملامستها كما أن الأموال تنساب بين يدي الأب ويرثُ منه الابن هذه الصفة بحيثُ يصعب عليه الإدخار ليس بدافع العطاء كما الوالد بل يحبُ الإنفاق أكثر. هذا عن شخصية الأب في إطار الأسرة، فماذا عن دوره على المستوى المجتمعي والفكري والمهني؟ يجمع سقف الأسرة بين نقيضين؛ فالأبُ كان يميلُ إلى التيار اليساري المعاصر، فيما الأم تربت على القيم الدينية وتشربت بالروحانية وهي نشأت في بيت أحد أساقفة "ميدين" لكن هذا التباين لا يؤدي إلى التشاحن بين الاثنين، بل يكون موئلاً للفكر الجدلي. كان الابن يسمعُ من الراهبة قصصا وحكايات دينية، ومن جانبه سردَ له الوالد قصة تضحية جوردانو برونو كما يقراُ له أشعار نيرودا وماتشادو وباييخو. صراع القيم يسردُ المؤلف قصة حياته وسنوات تكوينه ودراسته وزواجه مرتين ورحلته برفقة والده إلى المكسيك كما يتحدثُ في ذات السياق عن دور أمه وشخصيتها المؤثرة والمبادرة بحيث حاولت تغطية نفقات الأسرة لاسيما بعد تلويح إدارة الجامعة بفصل زوجها. وتحملت مسؤوليتها بالعمل في مكتب داخل مستودع تخزن فيه معدات النظافة. إلى جانب ذلك يحكي نتفاً عن شخصية أخواته ويفردُ مساحة لصراع أخته الموهوبة مارتا مع المرض العضال الذي يودي بحياتها في نهاية المطاف. وبرحيلها يحل الحزن على البيت ويخلف هذا الحدث ندوباً عميقاً في روح الأب، وكان يؤنب نفسه لأنَّه لم يستأصل الشامات التي ظهرت على جسدها لأنَّه لم يتوسع في دراسة الطب.يتذكرُ الابن محاولات الأسرة للتوسل بالطب البديل والشعوذات في محنة مارتا، غير أنَّ ذلك لم ينفعْ أيضاً. زاد غياب الابنة من رغبة الدكتور جوميس في خوض معترك النضال، فتحول التعطش إلى العدالة عنده إلى المطالبة بالإستشهاد. فالملح الأبرز في شخصية الأب هو خدمة الفقراء وتوظيف الإمكانات العلمية والطبية لمعالجة هؤلاء، وهو بذلك كان يخالفُ مسلك زملائه في المهنة، فمن المعلوم أنَّ العقلية النفعية تطبع المناخ في كل الأوساط المهنية والأكاديمية، لذلك فمن الطبيعي أن يزدادَ الأعداء لشخصية من طراز آباد جوميس حيث ناشد للاهتمام بعلم الوبائيات، لأنَّ التداوي حسب رأيه ليس إلا مصدراً للتكسب، وهذا ما أثار سخط الأطباء عليه، وأتهم بأنَّه أكثر ماركسي تنظيما في المدينة، علماً بأن الدكتور لم يبدأ بمتابعة الأدبيات الماركسية إلا بعد لغط الإتهامات المتوالية، وكان يصف نفسه بأنه ماركسي في الإقتصاد، مسيحي في الديانة، ليبرالي في الفكر. ما يجدر بالذكر هنا أن ابنته صول تحقق جزءاً من أمنيته عندما تختارُ مجال الطب وتصبحُ متخصصة في علم الوبائيات. وما أن يعبر أفراد العائلة عن مخاوفهم حول ما يتنظر الأب من محاولات الإغتيال عقاباً على مواقفه حتى يقولُ الأخير: "لا بُدَّ أن يكون المرءُ عظيم الإعتداد بنفسه حتي يتمكن من التضحية بها". ولم يجثُ الدكتور جاميس إلا أمام الورد الذي غرسه ولم تتلوث يداه إلا بتراب حديقته. واعتقد جوميس بأنَّ الإنسان ما يدركه اليأس إلا عندما يجدُ أن المكان يخلو من كل شيء سوى الظلم دون أن يكون هناك موضع للسخط. غامرَ الدكتور إكتور أباد جوميس بالدفاع عن حقوق الإنسان في مدينته الموبوءة بطاعون العنف، ولم يثنه سقوط رفاقه في الدرب إلى أن تم اغتياله في أغسطس/آب 1987 وعثر الابن في جيبه على سونيتة بورخيس "النسيان"، وتُنقشُ تلك المقطوعة لاحقا على شاهدة قبره. يشارُ إلى أن إكتور آباد فاسيولينسي يذكر بالتفصيل لحظة تلقي خبر مقتل الأب وتحوله إلى جثة مسجاة، وما رافق من تشيعه من تكريم شعبي كأنه أراد بذلك إستعادة ما قد يكون منسياً إستعادة تامة، ولو كانت مدمرة حسب تعبير فالتر بنيامين. ما تخلص إليه بقراءة هذا النص أن الكفاح ضد العقليات النفعية وتقويض أسس الإستغلال الملتبس بالسياسة أو الأيدولوجيا أو الدين أو القومية هو الخطوة الأولى في طريق ألف ميل نحو التقدم والحرية.
مشاركة :