يقول الشاعر الكبير "رفعت سلام " في ذكرى صدور ديوان بودلير محاكمـة "أزهــار الشَّـر":"هذا الكتاب مستشفى مفتوحة لكل العاهات العقلية، وكل انحلالات القلب؛ وليت ذلك كان من أجل علاجها، لكنها مستعصية... وكان ممكنًا فهم أن خيال شاعر في الثانية والعشرين من عمره قد انساق إلى مثل هذه الموضوعات، لكن لا يمكن أبدًا التماس العذر لرجل تجاوز الثلاثين من عمره على نشره كتابًا يحمل مثل هذه الفظاعات". وتفضيلًا لعنوان "أزهار الشر" على "أزهار الألم"، يختار سلام العنوان الأول لديوان بودلير برهافة إحساس منه كشاعر يجيد اختيار واقتناء الكلمات الخاصة به وفقًا لمعجمه الشعري. وقد أثار هذا الديوان الجدل منذ صدوره الاول في 25 يونيو 1857، بل إنه أوصل صاحبه لقاعات المحاكمة بتهمة التجرأ على الآداب العامة، والأخلاق المسيحية. ومما لا شك فيه فإنه لا يشعر بمعاناة شاعر إلا من عاش التجربة الشعرية وتجرع آلامها، كما لا يقدر على الوصول لنبض المعنى الشعري إلا من صاغ الشعر لسنوات وأنشد القصائد العظام في محراب رباته، وفاضل بمهارة وحذق ما بين لفظة وشبيهاتها بشعور مجرب. وفي ترجمة الشاعر الكبير رفعت سلام لبودلير ستفاجأ عزيزي القاريء بمقدمة طويلة للمترجم، حرص فيها على وضع بودلير أمامك بشحمه ولحمه، لكي تتعرف على ماهية هذا الشخص الغريب الأطوار منذ طفولته، وتدخل إلى الأعماق النفسية لهذا الشاعر المنبوذ من الجميع؛ الأهل.. والنظام السياسي..ولجرأة هذا الشاعر – بودلير- منذ نعومة أظافره، فهو لا تعتريه رهافة البدايات الأولى، لذا فهو يحطم الحائط الذي يفصل الشاعر عن المتلقي، فيقول في قصيدته - إلى القاريء:" خطايانا عنيدة، وندمنا بليد؛ وندفع ثمنا باهظا لإعترافاتنا ونعود مبتهجين إلى الطريق الموحل".ولفهم سلام لطبيعة نفس بودلير الجريحة، وجريانه مع إضطرابات خلجاته الداخلية، فقد نجح في إيجاد الكلمات والمفردات الموصلة إلى المعنى بلا عناء أو تكلف منه كمترجم يبحث عن أقرب الكلمات للمعنى في القاموس اللغوي"خطايانا عنيدة.. ندمنا بليد".وبإحساس مؤمن جرب إيمانا عميقا يتلو سلام مع بودلير نصًا إيمانيًا: " مبارك أنت، يارب، يا من تمنح الألم كترياق سماوي لقذارتنا، وكالجوهر الأنقى والأرقى الذي يهيء الأقوياء للملذات القدسية!" حيث يلملم هنا سلام من المفردات الشعرية، والعربية ما ينهض بالمعنى، ويجليه أمام القاريء في لوحات سردية متتالية.ويتواصل نفس الشاعر الأول- المترجم- مع فحيح نفس الشاعر الثاني- صاحب التجربة الشعرية- فتتدفق منه أنات الحزن فيقول" والشاعر شبيه بأمير الغيوم يغشى العاصفة ويهزأ بالسهام؛ منفيا على الأرض وسط صيحات السخرية، تعوقه أجنحته العملاقة عن المسير". ويصيغ سلام عنوانا لقصيدة بلا عنوان نيابة عن شاعرها- العصور العارية-:" أحب ذكرى تلك العصور العاريةعندما كان يحلو لفوبيوس أن يطلى التماثيل بالذهب"ويحلو لبودلير الولوج إلى حيث تقبع ربة الشعر، لكنه يخصها لذاته هو فقط، وليس بالمشاركة مع الشعراء الآخرين:" ياربة شعري العليلة، واأسفاه!ماذا جرى لك هذا الصباح؟عيناك الغائرتان مفعمتان بالرؤى الليلية،وعلى سحنتك ينتشر، واحدا وراء الآخر".ويجتاز سلام مع بودلير أزمنة القذارة من عصور دينية كانت سببا في أزمة الشاعر مع العالم، إلى أزمنة القداسة والنقاء الروحي، فيقول في قصيدة الراهب الفاسد:" في تلك الأزمنة حين كان مسيح يُزهر مواسم الزرع، كان أكثر من راهب شهير، قليلا ما يرد له الآن ذكر، يمجد الموت ببساطة". ويقترب سلام رويدا رويدا من نفس بودلير الرهيفة، وعندما يفعلها لا ينسى أن يعامله بحنو أبوي كان مفقودا عند بودلير، فنراه يلملم من هنا وهناك كلمات تخترق النفس،كما في قصيدة العدو:" وهاأنذا الآن قد لا مست خريف الأفكار، ولابد من استعمال الجاروف والجرافات لإعادة توحيد الأرض المغمورة بالمياه من جديد".وفي شكل قصصى يأتي سلام بإيقاع هادي، كإيقاع بحيرة تقف حائرة مع مفردات الطبيعة، فيتلو قصيدة إرتحال الغجر:" يمضى الرجال مترجلين تحت أسلحتهم اللامعةبحذاء العربات التي تكدست عائلاتهم فيهاوهم يجولون بأبصارهم المرهقة في السماواتبأسى كئيب على الأوهام الضائعة".وفي قصيدة دون جوان في الجحيم يحتفظ سلام للقاريء بقوة البداية التي بعثها الشاعر، حيث تمضى نشطة بإيقاع سريع:"عندما نزل دون جوان إلى بحر الأعماقوعندما أعطى عملته النقدية إلى شارونقبض على المجاديف شحاذ كئيب،ذو نظرة متعالية، مثل أنتستين بذراع قوية منتقمة"وهذا هو عين ما فعله في قصيدة "عقاب الغطرسة":في تلك الأزمان الزائفة التي ازدهر فيها اللاهوت بأقصى طاقة وحيوية".
مشاركة :