إضاءات في قصيدة «جيتني مكسور» لسمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة

  • 6/27/2020
  • 00:00
  • 34
  • 0
  • 0
news-picture

ثمة شعر يتدفق إليك فيفيض بك.. ينسكب إليك نورًا... يشع عبرك إليك، يدخل بك، يتغلغل في خفوقك بفعل كثافة الوقع بفعل جموح قلب لا رتابة فيه، يلتحم بك برفق تلقائية الشاعر وجمال صوغه. ثمة قصائد لا تعبر عنها بل تعبر بك، تغير اتجاه ضوئك.. تعيدك إليك كأنها طاقة مسارية تتماوج بك.. تردادها ليس فقط كثافة الوقع بل إسقاط كوني ينتقل بك بأثر أكبر منك.. قراءتي المتواضعة في قصيدة «جيتني مكسور» لسمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة هي إضاءة شعرية لا تفي الشاعر حقه في نتاجه الشعري منذ سنين، بل هي واجب أدبي لتسليط الضوء على مكنوناته وقدراته الخلاقة كشاعر متمكن من أدواته ومبدع جزل في عبوره إلينا. يبدأ القصيدة بقوله «جيتني مكسور يوم الوقت جابك»، فالصورة تجسيد لعودة الغائب بحالة انكسارية فهي لم تأتِ مكسورة عبر طي من الوقت... فالشاعر هو الذي يجيئها بالوقت كي تأتي إليه، الفرق يكمن في قدرة عميقة على تشكيل الصورة بصلابة وتماسك لا سيما في جلب الوقت. فكم من شاعر يستطيع أن يجعل الوقت يجيء بمن كان يومًا غاليًا فأصبح غائبًا! الصورة مجازها أنها إدراكية بامتياز لا يمكن أن ندرك فيها الحالة دون هذا النمط من التركيب... فهي تسير أمامنا بانفتاح متوازٍ بصيغة تحديدية لا إرباك فيها يتعدى من خلالها حالة الصوغ إلى التأسيس نحو قصيدة لها حس متقد يديرها بعقل وشاعرية جوهرها فائق الذكاء والحدة... كأنه وحده يستوعب الوقت ويجيئه ليجعل له أثرًا أكبر منه.بإلهام واثق اليقين يقف منتصبًا لا عذر بعد الآن يجدي قد أدركه التحول. هو يدرك ما يريد ويصير إليه بل صار إليه! ليس إيمانًا منه فقط بأن ثمة فراق لا بد منه ولا عذر فيه ولا صفح عنه بل بقناعة تامة أعمق ما فيها أن ثمة غياب أفضل ما فيه انتفاء الحضور! لعل هذا الوقت الذي أتى به نصيره. فالغائب لا يدرك ما تغيّر. ولكن الشاعر جازم في كل شيء... محتكم لكل ما تغير حوله وبه حين يقول: «كل شي في نظرة عيوني تغير» حتى هذه العين لم تعد هي وهذه النظرة ليست هي.العين مفتاح الروح ومرآة القلب ننظر عبرها كي نرى.. ولكنه رجل يرى وينظر في آنٍ في مرآى من ذاته. هذا التأكيد فريد في تناغم تركيبته وفي قدرته أن يكون رجلاً متصالحًا مع نبضه إلى هذا الحد. يجيئك بعنفوان وقعه متكامل لا نقص فيه، وهو الملتحم بجوارحه كالتحام بؤبؤ عينه مع ماؤها... البوح عند سمو الشاعر ينبثق من طيات روحه الممتدة بحروف متقدة متألقة الصور بانسيابية تشد القارئ، برهافة وجدانية خلاقة تتجلى بصور أشبه باعترافات لا تثني الشاعر من المواجهة لا سيما في قوله «ما يفيدك شي وارجع في غيابك»، فسموه رجل لا يخشى المواجهة ولا يخشى الغياب، هو رجل لا يحفل باعتيادية الأشياء. لا يعرف المواربة في صوغ خفوقه... يمسك بالقصيدة منذ بداية المقطع الأول.. يرتوي من قدحات شعرية مؤثرة بحكم تفاعل خفوق روح أثقلها يومًا هذا البعاد. تتصاعد الصور لتتوازى ولتتحرك بإيقاعية التحدي، تنطلق بانسيابية حميمية تتلاقى في قوله: «انت لو حبيت غيري شي عادي»، «ما يهمه القلب بعدك أو بعادي». أبيات تتيح لنا الرؤية بشفافية لمرونة دقيقة تتوالى بوضوح لا ثقل فيه يقربنا إليه، ثم ينطلق بمواجهة هذا الرحيل «كان ما فكرت ترحل عن بلادي» بوعي حاضر لا يجفل من مكنوناته يعتنق قلبه بين يديه كما في الحياة نحن أقوى ما في الحياة بل نحن نصنع الحياة التي نحيا فيها كي تنتصر... هو الذي يتركها لعل لها أن تمضي ولا تجيء إليه!الشعر الحقيقي هو الذي يصل إلى المتلقي ويبقى في صوغه شعرًا صافيًا، حيث القصد فيه حق والدلالة فيه قوة. فالشاعر فارس في تأسيس نمط جديد يصلح أن نستمد منه تركيب شعر درامي جديد يدخل الى القلب بسهولة وسلاسة تصويرية تامة تضيف قيمة وجمالية عالية الى الوزن والقافية. تشعر فيها أنها يقبض على الورق كرسن حصانه، يشدك اليه ويشد الورق نحو الحرف بحرفية شيقة لتكون القصيدة تطويعا شعريا لشاعريته في مشهدية الأدب العربي.الشعر عند سموه هو تجاوز لفعل الكتابة.. الشعر عنده يزيده حياة ويزيد الحياة به «يكون فيه أو يكون» لا خلط فيه! الشعر عنه ليس مرهونًا بالولادة.. يباغتك بحس شاهق التكوين، بفطرته بل بجبلته الشعرية الأصيلة في شأن ذاته بدليل كينونته في خلق الشيء من اللاشيء! لا يصطف في الوسط ويظل بحنكة قادرًا وحاسمًا بشهق الفراق. لا يخشى في خطاه حد الاكتفاء! ويأبى أن يكون متورطًا بليل أو بقلب كان لها يومًا بيتًا.. هو يحيا بكل بساطة كي ينتصر! وهو ما ليس بغريب أو حتى مفاجئ بل هو حقيقي، فيكفي لنا أن نلقي نظرة على تركيبة شخصيته المتوقدة للإنجازات الاستثنائية في هذا الكون بتأكيد القول بالفعل بتصويب الحق والخير بتأثير اكتمال الوعي الشمولي المتفرد في شتى المجالات. في الجزء الثاني للقصيدة يتدفق بروح لا تحدها السماء بحس إنساني سلس اللغة ملؤها الحنان الذي يختلج به، يعيد تصويب مساره، يخلع عنه عباءة الوقت. ثابت في خطواته لا يجزع أو يتردد بل يتصاعد بك خطوة تلو الأخرى. «وكم سقيتك من سماي ومن حناني/‏ يا خسارة فيك كل الي عطيتك/‏ لو تغيب أيام وشهور وليالي/‏ لا تحسب انك مثل ما كنت غالي/‏ تدري اني من كثر هجرك نسيتك/‏ ارحل بحالك وأنا برحل بحالي» أجمل ما في شاعريته هذا الكم الحاضر من الجهوزية في اللغة. يجر الحرف برشاقة إليه بكل اتزان وبكل رقة. يعتمد على تصاوير إيحائية يبتكر له ولنا ذاكرة جديدة. ينسدل فيها الكلام وثيقًا مرتكزًا على رؤى بعدية تؤكد كم هو واثق من مكنونات قلبه، وطيات روحه لا يجد عناء في انفتاحه وفي توصيل ذاته بفطرة فياضة تصلك بجذب الروح اليك وسط عنفوان لا يتنازل عنه لا سيما في قوله: «خلك في دنياك غارق في حنينك /‏ لا تفكر اني باقي عند عينك».وحيه الشعري ليس ابتكارًا فقط بل هو خلق فعلي يجيء إلينا بمنظور شعري يرتكز بزواياه على رؤى بعدية تنقلك برؤياها لتجعلك ترى أعماق رجل آسر في شموخه.. القصيدة عنده هي توقدات ذاتية أبعد من أي تجريد يأتيك بها بلغة تتوازن مع إيقاعات مكثفة مشحونة لا تحدها حركة اللغة ولا تثنيها تركيبة القافية. فالقصيدة توليفتها متماسكة متراصة لا تضيق بحدود احتواء المعنى بل تساعدنا على استيعاب حالة انسانية تتجاوز حدود التجربة. الكتابة هي فعل كوني وإلهام رباني تدفعنا الى أن نتخطى عبرها حواجز الذات كي نتحرر بها من دائرة الأنا المغلقة نحو التأمل المفتوح على كل الاحتمالات. وأجمل القصائد هي التي يستطيع الشاعر أن يوازن بين انزياحه لنفسه وانزياحه للشاعر بشاعريته فهي دليل ذكاء وتمرس عاطفي واجتماعي! أن تكون ذاتك الشاعر وتظل أنت هو خروج عن الصورة النمطية، وهو محور ثبات للقصيدة من أولها حتى أخرها دون أي تردد.. هذه القدرة في درء أي انفصال بين ذات الشاعر وبين ما أنت هي فعل تصويب لدور جديد للقصيدة على إنها الخلاص من الخسارات وعلى أنها المواجهة وعلى أنها العبور.لطالما انتظرنا شاعرًا ينهض بالشعر من زوايا الذات ويستجيب لتحولات الرؤى في النفس الإنسانية، لطالما انتظرنا شاعرًا يتكامل به الشعر! «جيتني مكسور» هي إبداع يخلق حالة شعرية جديدة لا نمطية لإثراء أدبنا وعالمنا، هي توازن بين اللغة والتجربة متفردة في الإبداع.. والإبداع في الشعر ليست مقولة ثابتة أو حصرية لأحد.. ولكن فرادتها عند سموه أنها تجاذب يحدد ماهية الشعر بترجمة وجودية تنهض من فطرة بحتة. الشعر أحوج لسموه، وأحوج إلى تلك الاستجابات الممكنة للمساحات الممتدة.. نحن أحوج لسموه أكثر من ذي قبل للوصول الى تكامل متوازن بين اللغة والتجربة. نحن أحوج لسموه في صوغه الشعري لتمدد إنساني يرتقي ويتكامل به.

مشاركة :