محمد العريان * في إطار سعيها لجعل النظام التجاري العالمي أكثر عدالة، اتبعت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، سياسات ثنائية قوضت سلاسة حركة التجارة العالمية، وصارت واشنطن تتزعم التوجهات الحمائية في الاقتصادات المتقدمة. ماذا يحمل المستقبل للاقتصاد العالمي؟ الجواب الأكثر احتمالاً، لسوء الحظ، هو انخفاض النمو، وتفاقم التفاوت الطبقي، وفوضى الأسواق، وزيادة المخاطر المالية. لكن هذه النتائج ليست قدراً محتوماً؛ إذ يمكن لصناع السياسات تهيئة الظروف المواتية لاقتصاد أكثر مرونة وشمولية وديناميكية من خلال التغييرات التي تطرأ على نمط القرار السياسي في التوقيت المناسب. فالأضرار الاقتصادية التي أحدثتها أزمة «كوفيد- 19» في الربع الثاني من عام 2020، جاءت أسوأ مما كان متوقعاً. فقد انخفض النشاط الاقتصادي، وزادت حدة التفاوت الطبقي، واتسعت الهوة بين الأسواق المالية ذات التقييمات المبالغ فيها، وبين الواقع الاقتصادي. وفي ظل غياب لقاح أو علاج حاسم للوباء، فإن مسار الخروج من الأزمة الاقتصادية المرتبطة به- لا يزال غير مؤكد إلى حد كبير. وتحذر المؤسسات الاقتصادية الدولية الرائدة ومنها- صندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون والتنمية، والبنك الدولي- حالياً، من أن الاقتصاد العالمي، قد يستغرق لعامين على الأقل لاستعادة ما فقده نتيجة تأثير الجائحة. وإذا ما واجهت الاقتصادات الرئيسية موجات إضافية من العدوى، فإن التعافي سيستغرق وقتاً أطول. يمكن للسياسات المؤيدة للنمو في الوقت المناسب والمصممة بشكل جيد أن تسرع هذا الجدول الزمني، وتجعل الانتعاش أوسع نطاقاً وأكثر استدامة. وهذا لا يعني المزيد من الإغاثة على المدى القصير فحسب؛ بل يعني أيضاً تركيزاً أكبر على التدابير التي تعزز الإنتاجية، وتقلل من انعدام الأمن الاقتصادي للأسر، وتنسجم بشكل أفضل مع دوافع النمو المحلية والعالمية، وتضع حلولاً للانفصال الخطر و المتزايد بين النظام المالي و الاقتصاد الحقيقي. وهنا يبرز الدور القيادي المهم للولايات المتحدة، باعتبارها أكبر اقتصاد في العالم. وبصفتها مصدر عملة الاحتياطيات العالمية الرئيسية، تلعب الولايات المتحدة دوراً محورياً في تعبئة وتخصيص الأموال القابلة للاستثمار في العالم، لا سيما في وقت يتدخل فيه الاحتياطي الفيدرالي بكثافة في الأسواق المالية العالمية. وهي بدورها كلاعب مهيمن في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجموعة السبع، قادرة على توجيه سياسات التحفيز ودعم النمو، وإن كانت قدرة صناع القرار في واشنطن مقيدة بالنازعات الحزبية. صحيح أن حزمة الإغاثة بقيمة 3 تريليونات دولار كانت عرضاً رائعاً من الحزبين، لكن مع ارتفاع حالات الإصابة بالوباء وظهور التوترات الاجتماعية- والتي تجسدها احتجاجات واسعة النطاق على الظلم العنصري وعنف الشرطة- عاد المشرعون الأمريكيون كل إلى قواعده. ونتيجة لذلك، يبدو التقدم في إرساء أسس النمو على المدى الطويل- بما في ذلك في المجالات التي يبدو أن هناك اتفاقاً حولها بين الحزبين، مثل البنية التحتية وإعادة تدريب وتأهيل العمالة- بات احتمالًا مستبعداً. ويمكن رؤية انفصال مماثل بين الإرادة والقدرة على التحرك، في استجابة السياسة النقدية الأمريكية. فمجلس الاحتياطي الفيدرالي على استعداد للقيام بكل ما في وسعه للحد من الأضرار الموسمية والهيكلية لسوق العمل، والتي تشمل أكثر من 46 مليوناً من طلبات إعانات البطالة. لكنها تفتقر إلى كل من الأدوات الفعالة ودعم صانعي السياسات المالية، الذين هم في موقع أفضل بحكم صلاحياتهم، لتعزيز النمو الدائم. ومع وجود عدد قليل من الخيارات لتعزيز النمو الاقتصادي الحقيقي، شعر المجلس بأنه مضطر لاتخاذ خطوات لم يكن من الممكن التفكير فيها سابقاً وتشوه عمل الأسواق المالية، ما يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة ويشجع المستثمرين والمدينين على مزيد من المغامرة المفرطة. وبدلاً من أن يكون جزءاً من الحل، يواجه الاحتياطي الفيدرالي الآن خطر خلق المزيد من المشاكل، بما في ذلك سوء تخصيص الموارد، وتراكم الديون، وعدم الاستقرار المالي- وكلها عوامل تزيد من ضعف النمو. وعلى صعيد العلاقات الدولية باتت النوايا سلبية ونتائج التحركات السياسية التي حركتها تلك النوايا غير المتوازنة في العلاقات الاقتصادية الدولية. ففي إطار سعيها لجعل النظام التجاري العالمي أكثر عدالة، اتبعت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، سياسات ثنائية قوضت سلاسة حركة التجارة العالمية، وصارت واشنطن تتزعم التوجهات الحمائية في الاقتصادات المتقدمة. وعلى نطاق أوسع، تخلت إدارة ترامب، عن التعددية في الوقت الذي تتطلب فيه الأزمات العالمية تنسيقاً وثيقاً للسياسات الفردية والجماعية. وصارت قرارات واشنطن مفاجئة وغير واضحة بالنسبة لبعض البلدان في آسيا، على وجه الخصوص، ما أثار الشكوك حول متانة وموثوقية نظام عالمي تعتبر الولايات المتحدة محركه الأساسي وضمانته الأهم. وعلى سبيل المثال، سرعت الصين جهودها لتعميق الروابط الثنائية والإقليمية حتى تتمكن من تجاوز الولايات المتحدة، لكن على حساب تفتيت النظام الدولي. وينقسم صانعو السياسة في الولايات المتحدة حول العديد من القضايا، لكن من المؤكد أنهم يمكنهم الاتفاق على الرغبة في تحقيق نمو أسرع وأشمل وأكثر ديمومة. والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك على نحو مستدام هي تزامن تدابير الإغاثة قصيرة المدى مع سياسات مالية مستقبلية مؤيدة للنمو تدعم سوق العمل، و تنفيذ إصلاحات هيكلية مباشرة. وبدون ذلك يمكن أن تصبح المشاكل القابلة للحل في المدى المنظور، مثل ارتفاع معدلات البطالة، عميقة الجذور و تصبح معالجتها أكثر صعوبة. من جانبه، يجب على الاحتياطي الفيدرالي توخي المزيد من الحذر في كيفية تدخله في الأسواق. فتوسيع نطاق برامج شراء الأصول وإطالة أمدها، يجرد الأسواق من قدرتها على تسعير الموارد وتخصيصها بشكل مناسب. وما لم تنفذ تلك السياسات بوعي وحكمة، فقد ينتهي الأمر بالاحتياطي الفيدرالي بسحب البساط من دون قصد من النظام الأمريكي القوي القائم على السوق، ودعم شركات «وهمية» تتسبب بضعف الإنتاجية، وهشاشة النمو الاقتصادي الحقيقي وفوضى تسعير الأصول. وأخيراً، ينبغي على صانعي السياسات الأمريكيين توحيد مواقفهم حيال استعادة الدور القيادي لبلدهم في إنقاذ اقتصاد العالم، من خلال توسيع وتكثيف منتديات الحوار العالمية متعددة الأطراف وتحسين أداء النظام العالمي القائم على القانون. ولتحقيق هذه الغاية، يتعين على الولايات المتحدة إحياء الجهود المتعثرة لإصلاح إدارة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، من خلال معادلات تمثيل يتماشى مع الحقائق الاقتصادية الحالية والعمل على زيادة موارد الصندوق. ويجب على الدول الأخرى، أن لا تقلل من أهمية التغيرات الجديدة على اقتصادها بغض النظر عن حجم أي اقتصاد، فكلها ستتأثر بالنمو الاقتصادي الأمريكي والاستقرار المالي العالمي وآثار السياسة النقدية. وهذا يتطلب تعزيز سياسات النمو ضمن كل دولة للحد من تأثير «انعزالية» الولايات المتحدة و«كوفيد- 19» معاً. * كبير الاستشاريين في أليانز
مشاركة :