أساطيرُ العراقِ المُنكسِرة!

  • 6/30/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

الراحل أحمد راضي، لم يكن مجرد نجم كرة قدم، أمتع الجماهير بفنه وطريقة أدائه. هو جزء من بهجة آلاف العراقيين والخليجيين، ممن شكل راضي ذاكرتهم، وبات واحداً من أيقونات الزمن الجميل! كُنا صغاراً ومراهقين، نتابع المنتخب العراقي، في عصره الذهبي: أحمد راضي، حسين سعيد، عدنان درجال. أكنتَ تشجعُ أسود الرافدين، أم لا، أكنت عراقياً تعيش في الداخل، أو هارباً من قمع نظام "البعث" تُثقلكَ المنافي، لن تملكَ إلا أن تتناسى كل شيء، وتتسمرَ أمام الشاشة، منتظراً أحمد راضي، وهو يوقِد نجوم الفرح في سماءٍ طالما رغب الآخرون أن تكون مضمخة بالدم والدخان! الوجعُ رمحٌ انغرس، والدهشة سرقت الوجوه، ما أن رقدت الروح، وخفت الصوت الذي شكل إجماعاً عراقياً قَلَ أن يُختلف عليه، في زمنٍ تناهبت أرضُ السواد فيه، أعقاب البنادقِ والراياتُ السود! وما يزيدُ السماء حُلكةً، ذلك الجدلُ الطائفي العقيم، ومشانق العذاب، التي ترفعُ عِوض أسرةِ الرحمة، متناسين أن الحق في "التحول المذهبي" لأي سبب كان، هو حق أصيل، كفله "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، الذي ينص على أنه "لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة وأمام الملأ أو على حده"؛ وهو الحق الذي على الدولة أن تكفله لجميع المواطنين والمقيمين، وتحميه، بقوة القانون. غيابُ الدولة رحيلُ راضي، هو لحظة شديدة الرمزية، لغيابِ الدولة العراقية، وتداعي مؤسساتها على مر سنوات. وهي مشكلة مستعصية أشار إليها رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، الذي أتى لسدة مجلس الوزراء بعد أن استشرى الفساد، والمحاصصة، والتمذهب، والتحزب، في مؤسسات الدولة، التي فقدت معناها الوطني والقومي، لتستحيل إلى دكاكين يتقاسمها الساسة، وتنتهك المليشيات سيادتها، ويدميها الإرهاب، وتجوبُ سماواتها طائرات وصواريخ الحلفاء والأعداء! كوفيد-19، فيروس أصاب الملايين حول العالم، وكانت الأنظمة الصحية في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وسواها من الدولة المتقدمة في حالٍ من الإرباك، القلق، نقصان الجاهزية، خصوصا أنهم يتعاملون مع فيروس لا يملكون عنه – في بداياته- الكثير من المعلومات التفصيلية. من هنا، شيءٌ مفهوم أن يصيب النظام الصحي العراقي ما أصاب بقية الدول. إلا أن ما يعمق الأزمة، غيابُ الموازنات، ونقصان التجهيزات الطبية، ومحدودية الموارد، وفقدان الكفاءة في إدارة الأزمة، دون أن ننسى ضعف الدولة المركزية وعدم قدرتها على فرض القانون، ما أدى إلى حالة من عدم المبالاة، وسوء في التقيد بالاشتراطات الصحية، في عدة مدن وأحياء. البدائلُ الموازية عندما تفقد الدولة قدرتها على تطبيق القانون، تنشأ مجاميع موازية، تخلقُ وتفرضُ منظومتها التي تخدمُ مصالحا، وتكون متطابقة مع الثقافة التي تعتقد بصحتها. من هنا، جاءت المليشيات والأحزاب والعشائر، بديلا عن الدولة. وحلت الخرافة مكان العلم، والبحث عن الغيبيات والتعلق بها، عوض البحث عن الخلاص وفق بروتوكولات العلاج الطبية. غيابُ ثقة الناس في الطبقة السياسية، سبب آخر دفع شرائح واسعة إلى عدم الاكتراث. وهو سلوك لا يشي فقط باستهتار مجتمعي، ونوعٍ من القنوطِ، وإنما موقف احتجاجي، وإن كان على حساب سلامة الذات وتعريضها للخطر. الفساد الذي تحول إلى منظومة للرعاية الحزبية، دفع بعائلات كثيرة إلى الفقر، وعديد منهم حتى لو أرادوا الجلوس في منازلهم، والتقيد بالتعليمات الصحية، إلا أنهم غير قادرين على ذلك، فلا مالٌ لديهم يسدُ رمقهم، ولا مؤسسات حكومية أو أهلية قادرة على تلبية احتياجاتهم على مدى أسابيع وشهور. استحضارُ الغيب في هذه الأثناء، كان اللجوء إلى "الغيب" كمخلصِ من كل هذا "الخراب الكبير". وهو سلوك بشريٌ في مختلف المذاهب والأديان والمعتقدات. فعندما يفقد الإنسان حيلته، ولا يجد نجاة له على الأرض، يتلمسُ السماء، علها تكون له حضناً يقيه العذابات المتتالية. نجد ذلك عند المتصوفة، وقبابُ الأولياء في سورية ومصر وتونس والمغرب، وسواها. وهو توسلٌ ممارسٌ أيضا لدى البوذية والهندوسية والمسيحية.. باختصار: عندما تقلُ الحيلة، يزدادُ الحبلُ بالغيبِ متانة! هذا اليأسُ المستشري، كان وقوداً لعاطفة دينية جياشة، مع ذاكرة شعبية مثقلة بالحزن، وجدت في أولياء الله الصالحين، والأئمة، وآل بيت النبي محمد، طريقاً علّهُ يقودُ إلى الشفاء من فيروس-19، كيف لا و"تحت قبتهِ يُجابُ الدعاء، وفي تربتهِ الشفاء". مكة والمدينة، المركزان الدينيان الأكثر قداسة لدى المسلمين في العالم، اُغلقت السلطات السعودية أبوابهما منذ البداية، تحرزاً لأي خطر، فسلامة الإنسان أولا. وأعلنت موسم حج محدود جدا، حرصا منها على منع انتشار وباء كورونا المستجد. مقامُ الإمام الرضا في مشهد، ومقامُ أخته "فاطمة المعصومة" في قم، كلاهما أوصدت السلطات الإيرانية أبوابهما، وإن بعد حين، وأوقفت حشود الغاضبين الذين أرادوا اقتحام المزارات وفتحها بالقوة. إجراءات كانت هامة، لأن الأديان أتت لصونِ الإنسان وحفظ كرامته. إلا أن سدنة المقامات الدينية للمسلمين الشيعة في العراق، لم يستطيعوا القيام بخطوات مماثلة! قد يتساءل البعض عن السبب؛ وهو ببساطة: عندما يغيب القانون تعمُ الفوضى. في السعودية وإيران، وإن اختلفت الدولتان في مواقفهما السياسية وطريقة إدارة أزمة كوفيد-19، إلا أن فيهما سلطة استطاعت أن تفرض القانون، وترصد التجاوزات، وتعاقب عليها. الإغلاقُ المُمتنعُ في العراق، كانت أوساطٌ كثيرة مقربة من مرجعية النجف، وتحديدا آية الله السيستاني، تنقل تأييد مكتبه اتخاذ إجراءات شبيهة لما قامت به الحكومة السعودية من إغلاق للحرم المكي والحرم النبوي. إلا أن تشتت وتوزع القوى السياسية في العراق، ووجود تيارات دينية معارضة لإغلاق المقامات الدينية، منها التيار الصدري، ومرجعيات دينية مثل آية الله الشيخ محمد السند، وأنصار وقيادات التيار الشيرازي في مدينة كربلاء، التابع لمرجعية آية الله السيد صادق الشيرازي، فضلا عن تيارات دينية أخرى ذات مسلكٍ عقائدي طقوسي موغلٍ في شعبويته، كلُ ذلك لم يخلق أرضية صلبة لاتخاذ قرار كهذا، يكون محترماً، وتعمل الحكومة على تنفيذه بقوة "القانون". وقديما قال علي بن أبي طالب "لا رأي لمن لا يطاع"! هي "الفتنة"، راية رفعها أنصار "اللآدولة" في وجه أي تحرك أو موقف أو فتوى، تؤيد إغلاق المزارات الدينية، فكان الخيار بين: الهرجُ والمرجُ، أو تقليلُ الضرر ومحاولة تقليص الحضور لحدوده الدُنيا. ربما نجا الناس من التقاذف بالعِصيِ والبارود، لكن كثيرا منهم لم تكتب لهم النجاة من الإصابة بالفيروس. فالأنباء الآتية من كربلاء على سبيل المثال، وسواها من المدن العراقية، تفتح صندوق الأخبار السيئة: الأرقام تتناسل، والأطباء منهكون، والمستشفيات أضحى عدد منها بيئة حاضنة للوباء! لقد وقع المحظور، وبات على المعنيين أن يتساءلوا: كم أسطورة مثل أحمد راضي، ينتظر الساسة وأمراء البارود والمليشيات والدين، أن تنكسر، كي يزيحوا كؤوس السمُ عن شفاه الشعب المرتعشة. وكم من نجمٍ يجب أن يحترق ببطئ في السماء، كي يعي الناس أن الخلاص لا يكون بالانقياد نحو الغرائزية والعواطف، وأن الشجاعة والحكمة واجبتانِ للتحرر من كل هذه الأغلال. وحدها الكرة الفاتنة، ستعيد للمنهكين البهجة، كلما تذكروا أحمد راضي وهو يجري فرحا بعد كل هدفٍ يسجلهُ وردةً في قلوب محبيه. *نقلاً عن "العالم الجديد"

مشاركة :