فساد الديمقراطية وصلاح غيرها | علي الصراف | صحيفة العرب

  • 7/3/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لا تكف وسائل الإعلام الغربية عن مهاجمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأنه يسعى، بتعديل الدستور والاستفتاء عليه، إلى البقاء في السلطة حتى العام 2036. ولكن، هل يخطئ بوتين؟ وهل يتوجب على روسيا أن تسير على خطوات الديمقراطية الغربية لكي تكسب الرضا؟ ومن هم أولئك الذين يجب كسب رضاهم أصلا؟ وهل يجب على كل دول العالم أن تمتثل لتقاليد الديمقراطيات الغربية؟ وهل هذه الديمقراطيات، هي نفسها، جديرة بالاحترام بالفعل؟ الأمثلة كثيرة على فساد الديمقراطية الغربية. وكلما أمعن المرء في تفاصيلها كلما زاد دهشة من أن فسادها يكاد يتغلغل في كل مفصل من مفاصلها، ابتداء من الترشيحات إلى الانتخابات إلى إدارة السلطة نفسها. رأس المال هناك هو الذي يقرر كل شيء، لا إرادة الناخبين. هذه هي الحقيقة الأولى. وهي حقيقة تسخر من الناخبين كما تسخر من مفهوم الديمقراطية نفسه. التبرعات والإعلانات والتوجيه الإعلامي وشراء الذمم، ولوبيات النفوذ، هي بالأحرى العناصر التي تقرر من يجب أن يفوز ومن يجب أن يخسر، بل وحتى ما هي السياسات التي يتعين على الفائز أن يتبعها. هناك منظومة قيم وأعراف وقوانين تحد من الأثر الكارثي لهذا النمط من الأنظمة، إلا أنها منظومة تشبه جائزة ترضية لإقناع الناخبين بالصمت على فساد نظامهم. فبما أنهم لا يتضررون كثيرا كأفراد، وبما أن حقوقهم الفردية مصانة إلى حد معين، فإنهم يجب أن يرضوا بحقيقة أنهم لا يملكون أي تأثير حقيقي على وجهة السياسات العامة. الحقيقة الأخرى، هي أن هذه الأنظمة التي بدأت بفوارق أيديولوجية كانت تضفي مذاقا ما، وتميز بين خيارات وأخرى، انتهت إلى براغماتيات متشابهة إلى حد بعيد، بحيث لم يعد هناك الكثير من الفرق بين هذا الحزب أو ذاك. فحقائق السلطة شيء لا علاقة له بالأيديولوجيات ولا بالناخبين. سلسلة من الثوابت الاجتماعية والاقتصادية والقانونية تجعل الأنظمة الديمقراطية تشبه بعضها. ولكن هذه السلسلة نفسها، لا تحد من الفساد، كما لا تحد من الفوارق الاجتماعية، ولا التمييز الطبقي أو العرقي أو العنصري أو الديني. وهو في الواقع جزء من طبيعتها الراسخة. من دون خجل، هناك أحزاب ديمقراطية “مسيحية” تحكم أو تملك نفوذا في عدة بلدان أوروبية، يفترض أنها علمانية، ويفترض أنها تحترم حقوق الأقليات الدينية الأخرى. ولكنها تهين المعنى نفسه، وتسخر من مبدأ التساوي بين المواطنين، وتضع رموزا واعتبارات دينية على الواجهة. والشيء نفسه يطغى على سلوك بعض القادة. فساعة واجه الرئيس دونالد ترامب أزمة تظاهرات كانت تحيط بالبيت الأبيض احتجاجا على ممارسات شرطة نظامه (الديمقراطي) العنصرية، ودفعته إلى الاختباء في قبو، فإلى أين ذهب فور خروجه من القبو؟ ذهب إلى كنسية ورفع الإنجيل. ولكن ليس ليلتقط لنفسه صورا، وإنما للدلالة على أنه مسيحي وليس ديمقراطيا، حتى عندما كان نظامه يواجه تحديا ذا طبيعة إنسانية لا علاقة له بالدين. الكثير من قادة الديمقراطيات الغربية، مرتزقة أيضا، يمكن شراؤهم بالمال بسهولة. مؤسسات الشركات الكبرى والمصالح الرأسمالية هي التي تشتريهم، كما يمكن لدول أخرى أن تفعل، خلال الخدمة وبعد انقضائها. توني بلير، على سبيل المثال، لم يقبض قرشا واحدا كرشوة على سياساته التي سمحت بغزو العراق بناء على أكاذيب أثناء خدمته كرئيس وزراء في بريطانيا. إلا أنه سرعان ما جمع عشرات الملايين ممن استخدموه، بعد خروجه من المنصب. القانون يمنع تلقي رشاوى. ولكنهم يتلقونها في نهاية المطاف، بوسيلة بعد أخرى، حينا أو بعد حين. والأمثلة كثيرة إلى درجة تدفع المتمعن فيها إلى أن يستغيث طلبا لسطل يضع فيه غثيانه. وهم كذابون أيضا. يرفعون شعارات ويقدمون وعودا لإغراء الناخبين، ثم يفعلون غيرها. وهم لا يخدمون بلدانهم بالضرورة. توني بلير ذاك، يقيم في إسرائيل أكثر مما يقيم في بريطانيا، لأن ولاءه الحقيقي هو لمن يعطيه، وليس للبريطانيين الذين خُدعوا به، ولا حتى لحزبه. فهل يخطئ بوتين لو أنه أراد البقاء في السلطة إلى ما يشاء؟ شيئان يقرران صلاح نظامه وصلاح خياراته: مكافحة الفساد، وحسن النصيحة. لا يوجد دليل حقيقي واحد يمكنه أن يثبت أن بوتين رجل فاسد. هناك مزاعم غربية كثيرة، تشبه إلى حد بعيد المزاعم التي قالت إن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يملك المليارات في حسابات خارجية، هو الذي ربما كان لا يملك حسابا مصرفيا خاصا به داخل بلده نفسه. كان يشعر أنه يملك العراق، كما يملك كل شعبه. ويمكنه أن يدخل أي منزل، ومن فوره إلى المطبخ، ليأكل أو حتى لينام. “دكتاتور” كما قيل لنا، ولكنه كان في غنى عن مال قارون. ولم يكن أي من وزرائه يجرؤ على أن يملك حسابا في الخارج، ولا دولارا واحدا، وكان أحد أوجه الانتقام من دكتاتوريته أن أصبح الفساد هو النظام في العراق الديمقراطي. ولقد جعل بوتين من مكافحة الفساد في السلطة جزءا أصيلا من بقائه على رأسها. وهو لا يحكم إلا من خلال حزمة مخلصة من المستشارين المتخصصين. مجموعات، لا مجموعة واحدة، تقدم له القراءات والتحليلات والخيارات والبدائل وترسم له أفق التوقعات، وليس من المستبعد على الإطلاق أن تقول له (لا) على خيار أو آخر. تلك الحزمة، تكاد لا تسمع لها صوتا. ذلك لأنها ليست للبيع، ولا للاستعراضات التلفزيونية. واستشاراتها خاصة بصاحب القرار. يأخذ منها ما يشاء، ويهمل أو يرجئ ما يشاء. ما يهم في نهاية المطاف، هو أنه يفعل ذلك لمصالح روسيا. قائد واحد، مثل دينغ هسياو بينغ، كان هو الذي أعاد صناعة الصين لتتحول من بلد فقير، غارق في التخلف، وبالكاد يتم تصنيفه كدولة من دول العالم الثالث، إلى ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، وإلى بلد قوي ومزدهر ويشكل تحديا استراتيجيا هائلا لنفوذ الولايات المتحدة. ولئن كان يُعاب على الصينيين أنهم أقل قابلية على الإبداع والابتكار، الأمر الذي كان يحد من المخاوف الغربية حيالهم سابقا، إلا أن الصين اليوم تبدع وتبتكر على سوية الكثير من الدول المتقدمة. وابتداء من العام 2015، سجلت الصين، بحسب التقرير السنوي للمنظمة العالمية للملكية الفكرية، أكثر من مليون طلب لتسجيل براءة اختراع، وذلك من بين 2.9 مليون طلب في العالم كله. فإذا كان ذلك لا يكفي، فقد سجلت الصين، بمفردها، في العام 2019 نصف طلبات براءات الاختراع في العالم. “الدكتاتورية” القائمة في الصين والتي يهاجمها الغرب الديمقراطي كل يوم، ويتذرع لها بالذرائع، هي التي تجعل الصين قوة استثنائية اليوم. لا الرئيس الصيني معروض للبيع في سوق نخاسة الديمقراطية، ولا أي مسؤول آخر في نظامه “الدكتاتوري”. للديمقراطية تاريخ خاص بالغرب، وهي مشكلته، ولا أعرف لماذا يتعين أن تكون مشكلتنا نحن. ما نعرفه هو أننا ندفع ثمن خياراتها العدوانية، وميولها الطبيعية إلى ارتكاب جرائم الغزو والهيمنة والابتزاز والتهديد. لو كنت روسيا، لصوت لبقاء الرئيس بوتين حتى العام 2500، طالما لم يفسد، وطالما ظل يصغي للنصيحة.

مشاركة :