ظلت المدينة القديمة في تونس طوال سنوات في طي النسيان والإهمال على الرغم مما تحتويه من عمارة متنوعة تمثل كتابا مفتوحا لتاريخ الهندسة المعمارية في البلاد، إلى أن بدأت في السنوات الأخيرة مهندسة معدات طبية في تجديد المنازل العائلية وتحويلها إلى نزل صغيرة تستهوي عشاق حضارة الشرق. تونس- تضع ليلى بن قاسم نصب عينيها حلما بأن تحول المباني التاريخية المهملة إلى استثمار مربح في مجال الثقافة والمعمار بجانب خلق فرص عمل في أحياء عتيقة تتزايد فيها نسب هجرة الشباب. ومع انطلاقتها في تحقيق هذا الحلم منذ عام 2013 حيث نجحت ليلى في قطع نصف الطريق، يلف الغموض الآمال الآن بسبب آثار جائحة كورونا. وليلى بن قاسم رائدة في مجال الأعمال في تونس، وهي حائزة على شهادة الهندسة المتخصصة في المعدات الطبية بجامعة بوسطن الأميركية. وعملت لمدة تقارب عشر سنوات في مجالها لكنها اختارت لاحقا التخصص في حماية التراث والمهن الحرفية المهددة بالتلاشي والاختفاء. أسست ليلى شركتها “بلوفش للاستشارات” عام 2006، ومن مهامها الأساسية إطلاق مشاريع ثقافية ذات ديناميكية اقتصادية مثل ترميم القصور والبناءات القديمة التاريخية ودعم أعمال الحرفيين الحرة ما يساهم في خلق فرص عمل جاذبة للشباب. في بداية عمل مؤسستها، تمكنت ليلى من تحويل أحد القصور العثمانية في المدينة العتيقة يعود تاريخ تشييده إلى القرن السابع عشر، إلى فندق استثنائي مع حفاظها على الهندسة المعمارية الأصلية. ومثلت هذه الخطوة بداية قصة نجاحها. تقول ليلى “المهم بالنسبة لنا أثناء عمليات الترميم أن نحافظ على التراث المعماري. أمر جيد أننا وجدنا ما نصبو إليه مع الحرفيين الذين يعانون من قلة الفرص. لكن نتطلع إلى الاستمرار في عمليات الترميم لمبان أخرى معهم”. بالنسبة لليلى فإن التحدي الأكبر هو كيفية تحويل الدار العائلية إلى فندق سياحي مع مرافق عصرية أولها شبكة المياه والحمامات والإنترنت. وتضيف قائلة “هنا كانت لنا الصعوبة الكبرى مع جدار بعرض 70 سنتمترا، الأمر أشبه بمغامرة”. افتتحت ليلى “دار قاسم” عام 2013 وهي بناية من طابقين تتكون من سبع غرف يطغى عليها المعمار الأندلسي مع جلب قطع من مواقع أثرية رومانية. وفي سنوات قليلة نجحت الدار في استقطاب سياح من 63 جنسية على مدار العام. ويأتي غالبية النزلاء من المستكشفين والشغوفين بمباني وحضارات الشرق، أو السياح العرضيين لقضاء ليلة أو ليلتين وسط المدينة. وتقول ليلى “يأتي النزلاء هنا فينغمسون جميعا في الحياة اليومية والثقافية للتونسيين بكامل تفاصيلها داخل المدينة العتيقة”. وتتابع ليلى حديثها عن البدايات “كانت الانطلاقة صعبة، لكن المشروع نجح في ما بعد وحقق أرباحا مهمة. الفكرة الأساسية بالنسبة لنا هي أن نصنع فرصا مختلفة للسياحة الثقافية. أنا أؤمن بأن السياحة الثقافية يمكنها أن توفر فرصا اقتصادية جيدة”. حولت ليلى قاسم جزءا من شوارع المدينة العتيقة التاريخية إلى حظيرة أشغال يشارك فيها شباب حرفيون من الورشات الناشطة داخل المدينة نفسها من أجل أعمال الترميم. وتتابع بفخر “قمنا بتوفير جميع أرباح الدار الأولى على مدى أربع سنوات من أجل تمويل عمليات ترميم دار ثانية وقد نجحنا في افتتاحها رسميا في 2019”. توفر دار بن قاسم إقامة مختلفة في بيوت غارقة في السكينة والهدوء وتحمل تفاصيل الحياة قبل ثلاثة قرون على عكس الجلبة التي تطغى على حركة الأسواق والمقاهي المحيطة بالدار في الخارج. ومع أن الدار نجحت في تحقيق شهرة واسعة في سنوات قليلة، إلا أن ليلى تؤكد أن الهدف من هذا المشروع السياحي الثقافي ليس تكديس الأموال والأرباح. وتوضح ليلى قائلة “نحن مؤسسة اجتماعية جميع أرباحنا تذهب إلى المشروعات الاجتماعية. مثلا، ندعم الشباب لإنجاح مبادراتهم الثقافية في المدينة العتيقة ونمول عمليات الترميم للبنايات القديمة لتحسين الديناميكية الاقتصادية للثقافة”. وتتابع “نؤمن بالتشاركية الاقتصادية في عملنا، لهذا فإن فريق العمل والموردين جميعاهم من المدينة العتيقة. كما أننا نعطي الأولوية للحرفيين المحيطين بنا في تزيين أروقة الدار وبيوتها”. اليوم تواجه دار بن قاسم تحديا مؤثرا على مستقبلها في ظل الأزمة الصحية العالمية وتعطل حركة الطيران وتنقل السياح في العالم. ولا تعلم ليلى حتى متى يمكن للدار أن تصمد بلا نزلاء، فضلا عن أن طموحها في توسيع عمليات الترميم لمبان أخرى قد بات على المحك الآن. وتقول ليلى “أغلقت الدار الأولى ثم الثانية أبوابها بالكامل خلال فترة الحجر الصحي وألغينا كل الحجوزات عبر العالم بعد أن كنا حققنا حجوزات مكتملة حتى شهر مايو”. وتابعت “كانت فترة مخيفة بسبب التكاليف المتراكمة. قضينا شهرين بلا دخل. لكن خلال العام 2019 حققنا أرباحا جيدة، كما بدأ 2020 بشكل جيد حتى شهر مارس”. إن قطاع السياحة المشغل لنحو 400 ألف عمل مباشر في تونس فقد حوالي 130 فرصة عمل خلال فترة الحجر الصحي العام. وبينما اضطرت غالبية النزل إلى الاستغناء عن العديد من عمالها فإن دار بن قاسم أبقت على جميع عمالها. والسبب في ذلك كما توضح ليلى قائلة “المخزونات المالية لعام 2019 مكنتنا من الحفاظ على مواطن الشغل ولم نستغن عن أي عامل. 2020 هو عام اجتماعي ولن يكون عاما تجاريا للشركة”. وبدلا من استقبال النزلاء، فتحت دار بن قاسم أبوابها خلال فترة الحجر الصحي العام للمشاركة في الحملات الاجتماعية مع منظمة الهلال الأحمر من أجل إعداد وتوزيع الوجبات على المحتاجين. وتأمل تونس التي تكبدت خسائر في القطاع السياحي فاقت مليار دينار حتى يونيو الجاري مقارنة بنفس الفترة من 2019، في استقدام سياح من الخارج وإنقاذ ما تبقى من الموسم السياحي الصيفي بعد إعلان سيطرتها على الجائحة وفتح الحدود. وتقول ليلى “نحاول أن نتكيف مع الوضع. لدينا مخاوف بشأن المستقبل، لا نعلم كيف ستعود الأوضاع إلى ما كانت عليه من قبل”.
مشاركة :