العالم بين الجمهوريين والديمقراطيين 2/‏2

  • 7/5/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

كما تم تسليط الضوء في الجزء الأول من هذه المقالة على ما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية لمعرفة تفاصيل سير الأحداث هناك، بعد الاحتجاجات وأعمال الشغب والتراشق الإعلامي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي ومؤيديهما، على أعقاب مقتل المواطن الأمريكي «فلويد» على أيدي الشرطة المحلية في ولاية مينيسوتا الأمريكية، نحاول اليوم أن نطلع على تفاصيل أكثر تخص الصراع الحاصل في الولايات المتحدة، بين حزبيها الرئيسين، والتي تلقي بضلالها على جغرافيات أخرى من العالم ومنها جغرافيتنا، لنعي أكثر طبيعة هذا الصراع الذي نستطيع الجزم فيه الآن بأن المسألة ليست مسألة اجتماعية عنصرية بالدرجة الأولى، بقدر ما هي مسألة ترتقي للعقائدية الفكرية والأخلاقية، بين تياريين: تيار محافظ يسعى للحفاظ على المنجز الحضاري الوطني بما يحويه من حالة سياسية واجتماعية واقتصادية وقيمية، وبين تيار يسعى إلى هدم المنجز القائم وتشييد منجز حضاري قيمي جديد يراه أنه أفضل مما هو قائم. وهنا يستوجب إلقاء مزيد من الضوء على هذين التيارين: فالأول هو تيار كلاسيكي محافظ، يتكون من مفكرين وأكاديميين ونخب تجارية تنتمي للأفكار القيمية الأخلاقية والاجتماعية، وللأفكار الليبرالية الكلاسيكية التي أسسها المفكرون والفلاسفة الأوائل والآباء المؤسسون، ويحسب على هذا التيار فئات أخرى متطرفة من حيث المحافظة الدينية أو القيمية أو العنصرية العرقية. يسعى هذا التيار للحفاظ على ما تم إنجازه وتحقيقه على المستوى الوطني، والتمسك به والبناء عليه، من خلال إجراء مراجعات للنظريات والأفكار، وما ساورها من أخطاء وفشل في بعض جوانبها، وتصحيح بعض المسارات والمنهجيات كي تساير العصر وما أحدثه من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية. أما التيار الآخر فيرى أنه لا يمكن بناء منجزات جديدة إلا بعد هدم الوضع القائم بما يحويه من أفكار وقيم يراها محافظة ولا تتسق مع أطروحاته، من حيث السعي نحو تجاوز الخصوصيات والفروقات الاجتماعية والسياسية والعرقية والدينية والجندرية الجنسية وصهرها تمامًا، ومن ثم بناء منجز سياسي واقتصادي واجتماعي وإنساني جديد، ويتمثل هذا التيار في الحركات اليسارية القديمة التي استنهضت اليوم بحلة جديدة، وامتزاجها في بعض الحالات مع ما يطلق عليه «الليبرالية الجديدة»، وهذا التيار بطبيعته تيار راديكالي منفلت، إلا أنه يقدم نفسه بصيغة ناعمة هذه التارة ليحقق مبتغاه من أهداف. ومن فلسفات هذا التيار أنه لا يقر بأي قيمة عظمى، سواء أكانت قيمة دينية أو اجتماعية أو أخلاقية، وعلى هذا المنوال فهو يذهب إلى حالة الفوضى السياسية والاقتصادية والاخلاقية في المجتمعات، دونما وضع معيار للنتائج ومقدار ربحيتها بالقياس بخسائرها. وهنا أصبحنا نرى تكرار تلك الحالة وانعكاساتها على مناطق كثيرة من العالم، فليس ما يحدث في بريطانيا، وخروجها من الاتحاد الأوربي، وما يحدث بداخلها من صراع، أقل احتدامًا، حالة وحيدة. ولن نذهب بعيدًا، دعونا نقيس ذلك على حالتنا العربية، فهناك من هو مؤيد لليسار الديمقراطي في أمريكا، من حيث السعي إلى مفهوم التغيير وهدم المنجز الحضاري وبناء منجز على أنقاضه، وكذلك سنرى من هو يسعى ويعمل على الحفاظ على المنجز الحضاري ومن ثم البناء عليه. إن مفهوم البناء المبني على الهدم «أي مفهوم التغيير» مفهوم محفوف بالمخاطر البليغة والوخيمة ومجهولة وغير مضمونة النتائج، بينما مفهوم الحفاظ على المنجز الحضاري والبناء عليه «أي مفهوم الإصلاح»، فمسيرته أوضح، ونتائجه أسلم للأجيال المختلفة، الحالية والمقبلة. فمن واجب الاجيال الحالية ضمان تحقيق أكبر قدر من الاستقرار للأجيال المقبلة. وبالعودة إلى أمريكا ولمن يود الاطلاع على ما ستؤول إليه الأمور فيها، عليه أن يطلع على التحولات الاجتماعية والفكرية عند الأفراد في المجتمع الأمريكي، والتحولات فيما بين الأفكار المحافظة والافكار اليسارية والليبرالية الجديدة، بعيدًا عن ما تتناوله وسائل الإعلام التي يهيمن عليها الديمقراطيون واليساريون اليوم، سواء الإعلام التقليدي أو الإعلام الجديد «منصات التواصل الاجتماعي». ففي الوقت الذي تسوّق فيه الليبرالية الجديدة لعقيدتها وتضج بها وسائل الإعلام المختلفة تأييدًا مباشرًا أو مبطنًا لها، يظهر هناك رفض مجتمعي لهذه الأفكار وقيمها المنفلتة إلى حد أن العالم الحر نفسه يرفضها. ولا أدل على ذلك الرفض، ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات الأمريكية الماضية التي جرت في عام 2016 والتي أتت بدونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية وكشخصية مستفزة، تعبر عن موقف نقيض للرد على أفكار وقيم الليبرالية الجديدة بكل ما تحمله من أفكار استفزازية ومنفلتة، وبخلاف الضخ الإعلامي الذي عكفت عليه تلك المؤسسات ضد الرئيس ترامب، وبخلاف توقعاتها ونتائج استطلاعات الرأي العام التي قامت بها، والتي خالفتها في نهاية المطاف أصوات الناخبين على أرض الواقع. إذًا هناك تيار مجتمعي واسع مناهض لتيار اليسار الديمقراطي والليبراليين الجدد ظهر بكل قوة وإن كان لا يملك صيتًا إعلاميًا صاخبًا. وبين هذا وذاك فإن مسيرة الاستقرار وتنمية حياة البشر لا يقودها المتطرفون والعقائدون ومخالفو الفطرة الانسانية القويمة، والموتورون نفسيًا المحملون بخصومات تاريخية غير موضوعية، سواء كانوا من متطرفي المحافظين أو منفلتي اليسار والليبراليين الجدد. هنا نستطيع أن نقول ونؤكد أن من يقود التغيير نحو عجلة الحضارة في التاريخ، هم أصحاب الفكر من المعتدلين والوسطيين، العقلانيين والموضوعيين في آرائهم وأطروحاتهم، والقادرين على التفكير بشكل غير مُستَفَـز ومُستَفِـز، فعجلة الحضارة لا يقودها سوى المحمل بأكبر قدر من القيم الانسانية العاقلة، ونحسب أن تسارع الاحداث العالمية اليوم قد بلغت مداها لتهيئ الظروف لانحسار حلف التطرف بكل أطرافه المتناقضة، وبزوغ عهد العقلانية والاعتدال والوسطية من جديد ليضخ جرعة جديدة من الاعتدال المفضي للنماء لتنعم بها البشرية. وما بين ما يراه البعض تطرفًا في محافظة ترامب، وما يراه البعض الآخر تطرفًا...

مشاركة :