مناطق الاشتباك تغيرت في أذهان المصريين بعد سبع سنوات على ثورة يونيو 2013، وما كان مقبولا وقتها في سياق الحملة على الإخوان المسلمين قد لا يكون مسموحا الآن. وإذا كان الناس لم يغيروا قناعاتهم بشأن الإخوان، لكنهم باتوا مهتمين بالقضايا ذات العمق الاجتماعي، وهو ما عكسه الهجوم على مقال للفنانة المصرية المعروفة إسعاد يونس كانت نشرته منذ سبع سنوات ثم أعادت نشره فأثار ضجة كبيرة. عرضت الفنانة المصرية إسعاد يونس لانتقادات عنيفة على مقال ساخر نشرته على صفحتها الخاصة على “فيسبوك”، الخميس، بعنوان “البنت فتزحية”، اضطرت بعدها إلى حذف البوست بعد فترة قصيرة من نشره، حيث فهم الكلام على أنه تنمر على فتاة بسيطة ويحمل قدرا من الطبقية، وختمت كلامها “هذه حادثة حقيقية، لا يميزها عن غيرها من الحوادث الشخصية إلا تاريخ حدوثها، للعجب أعجاب، كانت يوم ثلاثين يونيو”. المثير أن البوست نشر كاملا في شكل مقال بصحيفة “المصري اليوم” منذ حوالي سبع سنوات، ومر مرور الكرام، لأن الفهم الأول كان متسقا مع تداعيات الأحداث السياسية وقتها الخاصة بثورة 30 يونيو 2013 التي أزاحت الإخوان عن حكم مصر، وبدا معبرا عن الحالة العامة لرفض الجماعة ولم يؤخذ على محمل الجد المجتمعي أو التنمر ضد أي فتاة قادمة من الريف. لم يتغير رفض قطاع كبير من المصريين للإخوان حتى الآن، لكن تغير الفهم الدقيق للمقال، فقد انساق رواد مواقع التواصل للتفسير الاجتماعي، وتجاهلوا المعاني السياسية، ربما لأن المقال كان خشنا من الناحية الأولى، ولم يكن مباشرا في الناحية الثانية إلا في فقرته الأخيرة التي احتاج البعض تركيزا كبيرا لاستيعاب مضمونها، ولماذا أعادت الفنانة نشر المقال بعد سبع سنوات من نشره في المرة الأولى. تفسير آخر غير مستبعد، يقول إن الوعي السياسي كان حادا قبل سنوات، وتم فهم الإسقاطات السياسية بطريقة سهلة، وهي أن الفتاة الريفية “فتحية” كما كتبت في المرة الأولى، هي رمز في سلوكها وتصرفاتها القذرة لجماعة الإخوان، بينما “فتزحية” كما نشرت في بوست فيسبوك، هي رمز لحالة اجتماعية ترفض التهكم على البسطاء، ولم تعد معنية كثيرا بالجوانب السياسية. يكشف التفاوت في التفسير عن جملة من التغيرات التي انتابت المجتمع المصري، منها أن ربيع السياسة الذي ازدهر في المجتمع مع ثورة 25 يناير 2011، وتصاعد مدّه حتى ثورة 30 يونيو تراجع الآن، وظهرت شريحة كبيرة لم تعد معنية سوى بما يمس همومها، ورغم المشكلات التي يعاني منها هؤلاء، غير أن هناك من يدافعون عنهم سواء كانوا منهم أو من طبقة أعلى، يعتقدون أن الكرامة لا تقبل السخرية. أثبت سحب إسعاد يونس، التي تقدم البرنامج الشهير “صاحبة السعادة” على فضائية “أون.تي.في” المصرية، للبوست أن الرّزاز الذي أصابها على منصات التواصل كان شديدا للدرجة التي لم تستطع تبرير أسباب إعادة نشر المقال، أو الدفاع عنه من زاويته السياسية العميقة. بدت المكونات الاجتماعية ساخنة ويصعب تحملها، لأنها حملت عبارات مسيئة لـ”فتزحية أو فتحية” المجتهدة وتبحث عن عمل شريف، بل مست فئة كبيرة شعرت بالاشمئزاز من التهكم على فتاة بسيطة كل ذنبها أنها تتعامل بفطرة أو سذاجة بالغة. أكدت الواقعة في المرة الثانية (النشر على فيسبوك) ارتفاع مستوى تأثير رواد التواصل الاجتماعي في مصر، كما في غيرها، فالحرب التي أشعلها بعضهم أخذت مناحي عديدة، بينها التعرض لجوانب شخصية في حياة الفنانة المصرية صاحبة الأعمال الكوميدية، وجرى التفتيش في سجلها الاقتصادي واستدعاء مواقف، بصرف النظر عن دقتها وصوابها، لكنها كفيلة بتشويه صورة الإعلامية الحالية المعروف عنها خفة الظل والبساطة، وتضعها في خانة “شيزوفرينيا” قاسية يمكن أن ترخي بظلال سلبية على متابعيها على المواقع الإلكترونية والتلفزيون. مرت سبع سنوات كافية لارتفاع تأثير منصات التواصل، كما كان هذا الموقف كافيا للتعرف على من يقودون جانبا مهما في هذا الفضاء الرحب، لا أعلم من أين بدأت الحملة على الفنانة المصرية، لكن معرفة المستفيد من النتيجة التي وصلت إليها يمكن أن تسهم في تلمس الخطوات حول من وقفوا خلفها وجعلوا هذا التأثير مدويا. المستفيد مباشرة، هي جماعة الإخوان التي تملك ميليشيات إلكترونية نشطة، غالبيتها تستخدم أسماء مستعارة، وتدير صفحات موجهة، وتستخدم شخصيات على طريقة “أنا مش (غير) إخوان”، كي يتسلل هؤلاء إلى صفحات أخرى، فقد أصبحت إسعاد يونس عدوة الفقراء، وبدت مصداقيتها ضعيفة، بالتالى يتوارى مفعول الهدف الأول الذي حمله المقال من دروس تتعلق بأداء جماعة الإخوان حكمها لمصر. أضف إلى ذلك، تقليل أهمية من يلجأون إلى هذه التورية وحصرها في المربع الاجتماعي الذي أصبح يثير حساسية لدى نسبة من المصريين، وقد يدفعهم إلى التعامل مع كل إسقاط من هذا النوع بدون معان سياسية، وهي رسالة كفيلة بردع من يفكرون في تكرار مشهد يونس في الكتابة وإعادة النشر والترويج على مواقع التواصل، على سبيل العظة أو الاحتفاظ في الذاكرة. درج كتاب وفنانون على استرجاع مواقفهم الإيجابية من ثورة 30 يونيو ولتأكيد انحيازهم ضد الإخوان، وأحيط البعض بشبهات تواطؤ أو اتهام بالعمالة للجماعة عندما كانت في السلطة، وهناك من يحاولون التفتيش في هذه الصفحات للانتقام ممن يعملون للقفز على سفينة الحكم في الوقت الراهن والحصول على مكاسب سياسية. تعرض رجل أعمال كبير خلال الأيام الماضية لحملة انتقادات جراء مواقفه المؤيدة للرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي، حيث قام الرجل بحملة إعلانية مدفوعة لتأييده عندما وصل إلى السلطة، ويبدو قريبا من النظام الحاكم حاليا. ويؤكد إعادة نشر هذه المواقف أهمية الأرشيف الإلكتروني وصعوبة تنصل أصحابها مما فعلوا بأياديهم. تشير حالة إسعاد يونس إلى عمق الانسجام في موقفها، وهو عامل يرجح أن خصوما سياسيين قاموا بالحملة الضارية الأخيرة عليها، والتركيز على المكونات الاجتماعية، وعدم الحديث عن الأبعاد السياسية المقصودة أصلا في المقال، وتوقيت إعادة نشره، والذي تضمن تحذيرا خطيرا لمن تسول لهم أنفسهم التفكير في التصالح مع الجماعة حاليا، فلا تزال تبث سمومها ولم تتوقف عن ممارسة ألاعيبها في الداخل والخارج. أخطأت الفنانة المصرية مرتين، الأولى أن البوست الذي نشر على صفحتها لم يشر إلى أنه هو ذاته المقال الذي سبق نشره في جريدة المصري اليوم منذ سبعة أعوام، ما كان كفيلا بإطفاء الجزء الأكبر من الاتهامات والحرائق، فتاريخ النشر يخفف كثيرا من ردات الفعل، والثانية إشارتها إلى أن الواقعة حقيقية، ما منح الانتقادات قدرا من المصداقية، فعدد كبير ممن علقوا على كلامها انتقادا له وتقليلا منها تعمدوا عدم الإشارة للفقرة الخاتمة التي تعد “ماستر سين” بلغة السينما، الكاشفة عن غرضها منه. حتما سوف تذهب الزوبعة حول إسعاد يونس، لكن تبقى معانيها، وأهمها أنه لا شيء يسقط بالتقادم عندما يتعلق بالوطن، ومن يتصورون سهولة محو جرائمهم السياسية لن يتمكنوا من ذلك، فالأرشيف والفيديوهات المصورة يقفان شاهدين عليهم. وكل كتابات تنتقد تصرفات الإخوان من الصعوبة أن تحمل مضامين تمتد إلى البسطاء، فالجماعة أبعد ما تكون عن هؤلاء ومطالبهم وأهدافهم، وتنحصر علاقتها بهم في استغلالهم وتوظيفهم كرقم أو ورقة انتخابية وكفى.
مشاركة :