جناية مدوني التراث على الأخبار - ناصر الحزيمي

  • 7/11/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

من النماذج التي تدهش القارئ في تراثنا العربي نموذج التراث المهمش والمنسي بالرغم من وجوده وفاعليته في الحراك التاريخي بالضرورة، وكما هو معروف أن التاريخ والأدب قد كتبه حملة القلم بشروطهم القاسية والمتحيزة فكتبوا ما كتبوا وفق نظرة انتقائية بحتة وإلا فأين هي الحياة الاحتماعية والحراك الشعبي وأين هو الأدب الشعبي وأين هي النماذج البشرية الشعبية وهل يعقل أن تاريخنا الحقيقي هو المدون بالفصيح وأن أدبنا الحقيقي هو المكتوب بالفصحى؟. لقد جنى مدون التراث العربي جناية كبرى وعنصرية حينما قصر المدون على أخبار الملوك والقادة الكبار واجتزأ من النتاج الفكري والمعرفي الفصيح من الشعر والنثر، لقد مارس المدون ضد عموم الشعب ذي الثقافة المحكية فوقية ووصاية حرمتنا من التواصل مع الحياة الاجتماعية الحقيقية والصادقة وما وصلنا من هذه الحياة أمر لا يذكر علما أنه وصلنا بشروط المدون المتغلب على أدوات الكتابة والفكر. في هذه الأيام أدرك الكثير منا فنوناً شعبية صرفة مثل فنون الحصاد في مواسمها وفنون البحر وفنون العتالة، وغيرها وغيرها وكما قلت قد أدركنا بعضها فهل يعقل أنها غير موجودة قبل خمسة عشر قرناً، لا يمكن أن نصدق بأي حال من الأحوال أن العرب في حواضر الجزيرة العربية، وبغداد العراق والشام ومصر والأندلس لم ينتجوا شعراً محكياً أو مثلاً محكياً أو حكمة محكية أو طرائف وقصصاً سارة بين العامة وتداولوها. إن هذا الإنتاج الثقافي كان موجوداً ومتداولاً وحياً قبل أن يسقط الاحتجاج بلغة الحضر في القرن الأول الهجري والمقصود هنا حاضرة المدن الكبرى مثل مكة والمدينة والطائف والبصرة والكوفة وهذا قبل أن يختلط العرب اختلاطاً تاماً بأهل سواد العراق والشام، وبشهادة المؤرخ اللغوي فإن هذه الحواضر كان بها من يتكلم العربية المحكية غير الفصيحة التي لم يبقَ لنا منها إلا شذرات من المفردات والقصص والأمثال، شذرات لا تسعفنا بتكوين رؤية عن الثقافة المحكية غير المدونة في تلك الحقبة. لقد جنى مدون التراث العربي جناية كبرى وعنصرية حينما قصر المدون على أخبار الملوك والقادة الكبار واجتزأ من النتاج الفكري والمعرفي الفصيح من الشعر والنثر هنالك نصوص ذكرها الجاحظ المتوفى في القرن الثالث الهجري حاول من خلالها أن يرصد الحياة الاجتماعية والشعبية ولكن مشكلة الجاحظ أنه كان يمارس الانتقاء الصارم فهو لا يذكر إلا العربي الفصيح ويصرح دائماً بتعاليه على ثقافة العوام والرعاع والسوقة وإذا حدث أن ذكر في يوم من الأيام حدثاً ملحوناً يحكي به كلام السوقة والعوام فهو يعتذر عن مسلكه المشين هذا عند أهل التدوين وطبقة النخبة ولذلك وقائع كثيرة كما أن الجاحظ يتدخل في النص العامي ويعالجه من الناحية اللغوية ويؤهله لأن يصبح نصاً يرتقي للتدوين النخبوي. والمتأمل لنتاج الجاحظ يجد نماذج كثيرة لشخوص من السوقة والعوام يتحدثون بالعربية الفصيحة السليمة من اللحن فهل يعقل أن مكدياً أو طراراً أو لصاً يسطو على البيوت أو بائع أغنام يتحدث هذه اللغة الراقية التي يحكيها الجاحظ على لسانهم، ولا ننسى أن الجاحظ متهم في وضع الحديث؛ يقول الأزهري أبو منصور محمد بن أحمد صاحب كتب تهذيب اللغة في مقدمة هذا الكتاب "عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ: وكان أوتيَ بسطةً في لسانه، وبياناً عذباً في خطابه، ومجالاً واسعاً في فنونه، غير أن أهل المعرفة بلغات العرب ذمّوه، وعن الصّدق دفعوه. وأخبرَ أبو عمر الزاهد أنه جرى ذكره في مجلس أحمد بن يحيى فقال: اعزبوا عن ذكر الجاحظ فإنه غير ثقة ولا مأمون". وهنا نص أود أن أورده نقله الجاحظ نفسه في كتابه (الهام الحيوان) نص يحكي فيه الجاحظ وصايا عثمان الخياط كبير اللصوص في بغداد وللأسف لم أجد ترجمة لهذا الرجل في مضان كتب التراجم المعروفة مثل كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي وغيره يقول الجاحظ: من وصية عثمان الخياط للشطارِ وقال صاحب الكلب: في وصّية عثمانَ الخيّاطِ للشُّطّار اللّصوص: إيّاكم إيّاكم وحبَّ النّساء وسماعَ ضربِ العود وشربَ الزّبيب المطبوخ وعليكم بضرب الطُّنبور وما كان عليه السلف واجعلوا النّقل باقلاّء وإن قدرتم على الفستقِ والرّيحان شاهَسفَرَم، وان قدرتم على الياسمين ودعوا لبس العمائم وعليكم بالقناع والقَلَنسوة كُفر والخف شرك واجعل لهوك الحمَامَ وهارش الكلابَ وإِيّاك والكباشَ واللّعِب بالصّقورة والشّواهين وإيّاكم والفهودَ فلما انتهى إلى الديك قال: والدّيكَ فإنَّ لهُ صبراً ونجدة ورَوَغانا وتدبيراً وإعمالاً للسّلاح وهو يبهر بهر الشّجاع. ثم قال: وعليكم بالنّرد ودعوا الشِّطرَنج لأهلها ولا تلعبوا في النَّرد إلا بالطويلتين والودعُ رأس مالٍ كبير وأوّل منافعه الحذق باللَّقف. في هذا النص مفردات وتعابير فيها شيء من الغموض يدخل المتلقي لهذا النص في حيرة وإلا فما معنى قوله: مثلا "ولا تلعبوا في النرد إلا بالطويلتين" وهل المقصود هنا لعبة الطاولة المعروفة عند المتأخرين الله أعلم.

مشاركة :