الرواية ترد الاعتبار لمن ظلمهم التاريخ | مصطفى عبيد | صحيفة العرب

  • 7/10/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

مثل طرح حكايات المهمشين والغرباء المبثوثة عبر ثنايا التاريخ وصناعة عوالم من الخيال الممنطق حولها فرصة للمعان وبروز الأدباء وسط صخب النصوص وزحام الأغلفة، لتلتفت الأنظار رويدا نحو مبدعين جُدد يسعون إلى أن يقرأهم جمهور أكبر. من بين هؤلاء الأديب المصري سمير زكي الذي كان لـ”العرب” هذا اللقاء معه حول رؤيته المختلفة للأدب. أدى ازدحام ساحات الإبداع الروائي إلى لجوء بعض المبدعين إلى التخصص في روايات بعينها، مثل الروايات ذات الخلفيات التاريخية أو روايات السيرة، وتعمد البعض السعي لصناعة قدر من الدهشة لدفع جمهور القراءة إلى الالتفات إلى ما يكتبونه في ظل عناوين لا حصر لها يصعب الاختيار بينها. الروائي المصري سمير زكي، واحد من الروائيين الممتزجين بخفايا التاريخ وهوامشه، يداعب بوجدانه دراما إنسانية واقعية شوهت أو بدلت حقيقتها، تحت سنابك كتبة التاريخ السلطويين، ويغرس قلمه في جراح مُتقيحة مُنذ عقود ليلج إلى عوالم الأقليات والغرباء في عالمنا العربي مُصححا ومُراجعا ومُعيدا النظر في أحكام تاريخية قد تكون مُلفقة. المنسي والمزور يضع زكي دفتره تحت إبطيه قافزا من دوحة إلى أخرى، ليُخبرنا أن الكثير ممن عرفناهم أشرارا ليسوا كذلك، مثلما هو الحال مع مَن صوروا لنا باعتبارهم أخيارا وصالحين. لاقت روايته الأحدث “الباشا” رواجا ليس لمحاولتها الواضحة لرد الاعتبار لطائفة الأرمن الذين تعرضوا لحملات إبادة عثمانية، وساحوا في بلدان الشرق فقط، وإنما لتناولها بصمات التنمية والعمران التي تركها الأرمن في كثير من البلدان العربية، من خلال شخصية نوبار باشا (1825ـ1899) ذي الأصل الأرمني الذي تولى رئاسة وزراء مصر، وأسهم في وضع قواعد وأسس ولوائح للتنظيم والإدارة لتحقيق العدالة في البيروقراطية المصرية. يؤكد الروائي في حديثه لـ”العرب” على أن الأدب معني بنفض الغبار عن التاريخ المنسي للبشر، وزرع أعمدة إضاءة في طرق التعتيم السياسي لرد حق مسلوب، أو إنصاف بشر مظاليم. ويوضح أن هذا التصور هو ما دفعه لتتبع تاريخ الأرمن في العالم العربي، وإعادة رسمه من خلال فن الرواية، الأقرب إلى الناس عند إعادة قراءتهم للتاريخ، وأن طائفة الأرمن من أكثر الأقليات التي تعرض تاريخها للتشوية والتزوير من قبل السلطة التابعة للدولة العثمانية، رغم الاحتواء الشعبي لها في بلدان عربية مثل مصر وسوريا ولبنان. ينتمي الروائي المصري لجيل الوسط، ويهتم بتاريخ المهمشين، وصدرت له سبع روايات أبرزها “كلوت بك”، و”رجل ضد العالم”، و”السفينة الحمراء”، و”مدام خياط”، وتصدرت روايته “البنك العثماني” قائمة الروايات الأكثر مبيعا في بيروت عامي 2016 و2017، كما صدرت له رواية فنتازيا حملت عنوان “رجل ضد الله” لكنها منعت من التداول في 10 دول عربية. يقول زكي في حواره، إنه سبق وتعرض لتاريخ الأرمن وما تعرضوا له من مآس وما واجهوه من اضطهاد من قبل العثمانيين، مقابل احتواء واستيعاب في مصر والشام في رواية سابقة حملت عنوان “البنك العثماني”، لكنه هذه المرة حاول تجاوز الفكرة السابقة، والمتكررة لفضح تلك المخازي والمجازر التركية تجاه الأقلية المسالمة للوصول إلى إلقاء الضوء على إنجازات ومآثر عظيمة بثها بعض الأرمن في المجتمعات العربية. يمكن فهم اختياره لشخصية نوبار باشا الذي كان موظفا على درجة عالية من الكفاءة في المعية الخديوية حتى قرر اختياره رئيسا للنظار (رئيسا للوزراء) في مصر لثلاث مرات مختلفة. يشير سمير زكي، إلى أن نوبار باشا على وجه التحديد قدم لمصر وشعبها الكثير من النظم والقواعد الإدارية المستهدفة للعدالة، وكانت نجاحاته في مجال الزراعة سببا في إطلاق وصف “أبوالفلاح” عليه، كما يُحسب له إلغاء نظام السخرة الذي ابتدعه العثمانيون لتشغيل الفلاحين والبسطاء في مشروعات عامة جبرا ودون أجر. كان الرجل شعلة نشاط حين أنشأ المحاكم المختلطة بعد أن كان قناصل الدول الأجنبية ورعاياها يرتكبون كافة الجرائم دون عقاب أو حساب، وكانت لكل دولة أجنبية محكمة خاصة يديرها قنصل وفق امتيازات أقرتها دولة الخلافة العثمانية للدول الأوروبية في البلدان التابعة لها. تعرض الأرمن لمجازر مروعة في سنة 1895 عرفت بالمجازر الحميدية، وفرّ مئات الآلاف من الأرمن إلى البلدان العربية، وكانت مصر من الدول التي استقبلت المضطهدين ووفرت لهم الحماية والمساعدة، ولم تُذعن القاهرة لتعليمات وأوامر دولة الخلافة بتتبعهم والتضييق عليهم، لأن أهل مصر كانوا يكنون كل عرفان وامتنان لنوبار باشا لإنجازاته. يبدي زكي تحفظه على تعبير أقليات أو غرباء لتوصيف الأرمن أو غيرهم من الجاليات والطوائف التي عاشت في بلاده، لأن مصر في تصوره كانت حاضنة لكافة الأجناس والطوائف التي سكنتها وعاشت في تناغم لا يمكن أن تجد مثله حتى في أعظم الحضارات الإنسانية، فعندما كانت بعض الدول تعاني التمزق والحروب الأهلية بسبب اللون والعرق والمصالح، كتبت مصر تاريخا من ذهب في التعايش مع الآخر. تسعى جمعية القاهرة الأرمنية، إلى تحويل الرواية إلى مسلسل درامي يستهدف رد الاعتبار للأرمن ورموزهم النجباء والتوعية بالدور العظيم الذي لعبوه في الحياة الثقافية والفنية والاجتماعية والسياسة والاقتصادية. ويؤكد زكي، أن تحويل الرواية إلى عمل فني يساهم في توسيع مداه للوصول إلى أكبر فئة ممكنة، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، والرد على أكاذيب تاريخية تدفع بعض المجتمعات للتعصب والتطرف ورفض الآخر. ويرى أن الرواية والدراما التلفزيونية جناحان لطائر واحد مهمته الإنصاف والإمتاع، والتاريخ يُمكن أن يمثل وعاء لحكايات شتى، وفي مجمله وجبة دسمة شهية لا تشبع منها أو تستطيع الإجهاز عليها، بل كلما فتشت في بحور التاريخ وجدت خيرات جمة، كأنها أسماك شهية منها الكبير ومنها الصغير، والصائد الماهر فقط هو من يستطيع أن يحدد نوع الأسماك التي يريدها داخل شباكه الأدبية. في تصوره إن البحث التاريخي لا غنى عنه لأي كاتب يريد خلق حياة حقيقية مليئة بالمرادفات الحية التي تخلق التنوع الدرامي في عالم الرواية وحتى في الأعمال الفنية، ولا ننسي أن أعظم الأعمال التاريخية التي استمدت جذورها من الوقائع الشهيرة تبقى في وجدان القارئ وتخلق وعيه الثقافي. ويتابع قائلا “فترات الانتقال الحضارية تشهد طفرات غير طبيعية جديرة بالتأمل، والوقوف برهة أمام هذا التغير الذي يمكن أن يحدد مجريات الأمور وهذا ما يخلق التنوع الدرامي المشوق”. والعمل الروائي طالما وجد منفذا إلى عالم التاريخ دون أن يغير في مجريات الأمور، فذلك محبب إلى القارئ الفطن كثيرًا جدًا، الذي اعتاد على أسلوب التشويق والإثارة واللعب على المرادفات التاريخية مع مراعاة عدم تغيير أي حقيقة حتى لا يحدث خلل في المعنى أو تحريف متعمد للحقائق التاريخية. يستطيع فن الرواية إحياء الأموات من قبورهم وصبغهم من جديد بماء الحياة. خيال لا حدود له يذكر سمير زكي، أن الإبداع الروائي ليس له حدود أو معايير، وروافده ممتدة حسب خيال الكاتب وقوته الإبداعية، “إنني كما كتبت في أمور تاريخية تطرقت أيضًا إلى الخيال العلمي المبني على ثوابت ونظريات حقيقية، مثل نظرية الاحتراق الذاتي في رواية ‘التغريدة القاتلة’، فالروائي الحقيقي لا يحده شيء في الخيال”. وحول تشكيل اللغة لدى الروائي، يوضح أن الأديب يصنع لغته من خلال لسان عقله النابض بالحياة والمعاشرة الحية للواقع، وهو لا ينسى العبارة الشهيرة التي سمعها للمرة الأولى من الأديب نجيب محفوظ في إحدى جلساته مع محبيه والتي تقول “إن رأس مال الكاتب هم الناس”. وعلى الروائي الفطن أن يقرأ في كل المجالات وكل مسارات التاريخ المختلفة، كلما فتش الكتب سيجد حيوات تتراقص أمامه مليئة بالولع والشغف، فالقراءة الحرة للكاتب تسهم بشكل كبير في تشكيل وعيه ونضجه الأدبي، والعباقرة يقرأون في كل المجالات ويسعون إلى خلق توليفة من التبغ الأدبي متميز المذاق والنكهة لأنه يمتد أثره زمنا طويلا.

مشاركة :