قد يبدو هذا العنوان غريبا في وقت يسجل فيه إردوغان «انتصاراته» الليبية في غفلة من الزمن. ولكن على عكس ما توحي به المظاهر الخادعة السائدة حاليا فإن أحوال المستبد التركي ليست على ما يرام. وأعتمد في هذا الاستنتاج على رأي كبار الخبراء المختصين في الشؤون التركية. فهم يقولون لك إن طاغية تركيا أكل وقته ووصل إلى نهاياته بعد فترة صعود مظفرة استغرقت 15 سنة بالتمام والكمال. وما بعد الصعود إلا الهبوط كما تقول لنا فلسفة التاريخ الكونية. وقد ابتدأت ماكينة إردوغان بالتعطل أو التخلخل منذ عام 2013 عندما اكتشف القضاة بمحض الصدفة وجود قضايا فساد وثراء غير مشروع تخص أقارب الرئيس وحاشيته الخاصة ومن بينهم ابنه بلال. وعندئذ استشاط الزعيم غضبا وأمر باعتقال هؤلاء القضاة الذين تجاوزوا حدودهم في التنقيب ودسوا أنوفهم فيما لا يعنيهم. وعندما اكتشف أنهم ينتمون إلى جماعة فتح الله غولن جن جنونه واندلعت الحرب بينه وبين معلمه السابق. وهي حرب تجري بين زعيم الإخوان المسلمين أي إردوغان نفسه/ وزعيم الإسلام التركي المتنور نسبيا أي غولن ذاته. ومعلوم أن الأول كان تلميذا للثاني لفترة طويلة قبل أن ينقلب عليه. ومنذ تلك اللحظة ما انفك إردوغان يفكك شبكات غولن في جميع النطاقات من البوليس إلى الجيش إلى القضاء إلى وسائل الاعلام. وبالتالي فالمعركة اندلعت بين الرجلين قبل محاولة الانقلاب الفاشلة لا بعدها. ولكن الحرب ازدادت اتساعا وعنفوانا بطبيعة الحال بعد الانقلاب الفاشل الذي جرى بتاريخ 16 يوليو 2016. عندئذ راح إردوغان يشن حملة جهنمية على جماعة غولن، حيث اعتقل ما لا يقل عن 75 ألف شخص منهم في كافة المجالات، وسرح ما لا يقل عن 150 ألف موظف من عسكريين وقضاة ومدرسين وأساتذة جامعيين الخ. والأهم من كل ذلك هو أنه ألقى القبض على كبار الضباط: أي نصف القيادة العسكرية للبلاد. وشملت عملية التطهير هذه عشرات المثقفين والصحفيين الأتراك أيضا. وراحت قائمة المسجونين منهم تطول وتطول حتى أصبحت تركيا أكبر سجن في العالم للصحفيين وكتاب الرأي. ومع ذلك فيتوهم البلهاء من أمثالنا أن تركيا بلد ديمقراطي! بل ونتوهم أن إردوغان حقق المعجزة التاريخية: مصالحة عقيدة الإخوان المسلمين مع الديمقراطية والحداثة! لكأنه يمكن لعقيدة شمولية توتاليتارية أن تتصالح مع الحرية والديمقراطية! ولكن الحقيقة انفضحت أخيرا عندما كشف الرجل عن وجهه الحقيقي كأكبر طاغية مستبد في منطقة الشرق الأوسط. إنه شخص مهووس بجنون العظمة كصدام حسين سابقا. ولذلك ألّب عليه معظم دول العالم من العرب إلى اليونان إلى قبرص إلى فرنسا إلى الاتحاد الأوروبي إلى روسيا الخ. وأخذ يناطح الكرة الأرضية بمجملها. ولهذا السبب أصبح مكروها وممقوتا على صعيد الجماعة الدولية بأسرها تماما كصدام. فهل سيكون مصيره مصير صدام حسين؟ بل وبلغ به جنون العظمة إلى حد أنه تحول إلى سلطان يريد إعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية البائدة التي فتكت بالعرب وغير العرب طيلة قرون عدة. وما استطاعت الشعوب المقموعة التحرر من نيرها إلا بعد انتفاضات عارمة وثورات خلدتها كتب التاريخ بأحرف من نور. لنتذكر المشانق التي نصبها جمال باشا السفاح في كل من دمشق وبيروت بتاريخ 6 مايو 1916. وقد ذهب ضحيتها عشرات المثقفين والقادة الفكريين السوريين واللبنانيين والفلسطينيين. نذكر من بينهم: عمر الجزائري حفيد القائد العظيم عبد القادر الجزائري، والكاتب رشدي الشمعة، والشاعر رفيق رزق سلوم، والمفكر عبدالحميد الزهراوي، وعبدالغني العريسي، وسليم الجزائري، وجورج حداد الخ.. وقد واصل السفاح عمليته الإجرامية هذه في الأشهر التالية بغية إخماد صوت القومية العربية. ولكن هيهات! وقبل ذلك بسنتين أو ثلاثة كان قد صادر المحاصيل الزراعية في لبنان ومنع الغذاء عن الأهالي، وأدى ذلك إلى حصول مجاعة رهيبة أودت بحاية مائتي ألف شخص. ثم بعد كل ذلك يتوهم إردوغان أن الشعوب العربية تواقة للعودة إلى أيام السلطنة العثمانية! ما عدا الرجعيين وجماعات الإخوان المسلمين لا أحد يريد العودة إلى ذلك الكابوس الأسود والليل البهيم. ولكن على من يعتمد إردوغان في محاولته اليائسة هذه؟ على جهتين اثنتين: شبكات الإخوان المسلمين، ودولة قطر العظمى. وهما شيئان متداخلان. إنه «يمتطيهما» معا لكي يهيمن على العرب ويسطو على ثرواتهم الضخمة تماما كما فعل سلاطين بني عثمان سابقا. يضاف إلى ذلك أن إردوغان أصبح في أواخر أيامه يلهث وراء الأحداث. لقد أصبح يعاني من مصاعب داخلية كبيرة تعرقل كل مشاريعه الخارجية. ينبغي العلم بأن الاقتصاد التركي ظل يواصل صعوده حتى عام 2011، حيث بلغت نسبة النمو 5.8 %. ولكن هذه النسبة نزلت إلى 3.8 % عام 2018. ومن المتوقع أن تنزل إلى أقل من 1 % عام 2019. وأما المستثمرون الخارجيون فما عادوا يتهافتون برساميلهم وملياراتهم على أبواب أنقرة وإسطنبول كما كان عليه الحال قبل بضعة أعوام. والدليل على أن أيام إردوغان ولت إلى غير رجعة أن حزبه أصبح يعاني من نزيف حاد: فقد تركه حوالي المليون عضو منذ عام 2018. ولذلك زادت نرفزته وديكتاتوريته وأصبح كالثور الهائج يضرب يمينا وشمالا كيفما اتفق. وأكبر خطأ ارتكبه منذ عامي 2010 - 2011 وانتفاضات الجحيم العربي هو اعتقاده بأن الإخوان المسلمين يمثلون العرب كل العرب! فقد راهن عليهم ووضع كل بيضاته في سلتهم. وكان أن جاءته الصفعة الكبرى من مصر. وهي صفعة لم يقم منها حتى الآن. لم يفهم أن المستقبل لإسلام الأنوار لا لإسلام الإخوان. هذا الشيء يتجاوز عقليته الضيقة وإمكانياته الفكرية المحدودة. لم يفهم أن المستقبل ليس لإسلام حسن البنا وسيد قطب ويوسف القرضاوي وإنما لإسلام طه حسين ومحمد أركون وعبدالوهاب المؤدب.. المستقبل لهذا الدين ولكن في صيغته الأنوارية لا صيغته الظلامية. هذا الشيء لا يستطيع أن يفهمه إردوغان بل ولا يخطر له على بال. إنه يعتقد أن تفسير الإخوان المسلمين للإسلام هو الإسلام ذاته! هنا يكمن مقتل إردوغان والغنوشي وكل هذه الأشكال. واسمحوا لنا أن نضيف: بأي حق يتفاخر إردوغان على العرب ويتبجح؟ هل يعتقد أن الإمبراطورية العثمانية تحفة التحف؟ العرب صنعوا الإمبراطورية العباسية والعصر الذهبي وهما أهم من الإمبراطورية العثمانية بألف مرة، هذا ناهيك عن الأندلس وحضارتها الزاهرة التي بهرت العالم ولا تزال. وأما الإمبراطورية العثمانية فلم تنجب فيلسوفا واحدا على مدار أربعمائة سنة من تاريخها. لقد كانت ظلامية متخلفة بل ومرعبة إلى أقصى الحدود. كانت عبارة عن قوة عسكرية قمعية انكشارية فقط. وقد ذاقت الشعوب العربية وغير العربية من ويلاتها ما ذاقت. ولا تزال ذكراها سوداء كالحة في نفوس جميع الشعوب على عكس ما يتوهم إردوغان. من يريد العودة إلى جحيم السلطنة العثمانية؟ بل من يريد أن يتذكرها مجرد تذكر؟ ويقال إنها لم تترجم كتابا واحدا طيلة كل تلك الفترة اللهم إلا كتابا عن الأمراض الجنسية التي كان يعاني منها السلطان. وفيما كانت أوروبا تصنع النهضة والتنوير والحداثة بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر كان قادة الإمبراطورية العثمانية يغطون في نوم عميق. لم يظهر لديهم عالم واحد أو فيلسوف واحد في حين أن أوروبا كانت تشهد ظهور العمالقة من أمثال كوبرنيكوس، وديكارت، وجاليليو، ونيوتن، وكانط، وفولتير، وعشرات غيرهم. وعندما نحاول أن نتذكر عباقرة العثمانيين علما وفلسفة وحضارة لا نكاد نجد اسما واحدا. هذا في حين أن العرب أنجبوا الكندي والفارابي والبيروني والرازي وابن سينا والمعري وابن رشد وابن خلدون وبقية العباقرة الذين أثروا على الحضارة الكونية وكانوا أساتذة لأوروبا ذاتها. وبالتالي فليخفف السيد إردوغان قليلا من غطرسته وغلوائه. لولا العيب لقلنا له: أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع أخيرا إني لا أقصد بهذا الكلام التفاخر على الشعب التركي الكبير. فهو جارنا القريب وصديقنا العزيز بل وأخ لنا في السراء والضراء. أقول ذلك وبخاصة أن المثقفين الأتراك من أعظم المثقفين المسلمين حاليا وأكثرهم استنارة وعطاء. وعباقرة الأتراك في هذا العصر عدة في كافة المجالات وهم مفخرة لنا جميعا. ونجاحهم نجاح لنا أيضا. ولكنهم مغلوبون على أمرهم ومقموعون من قبل إردوغان. انظر هجومه على أورهان باموق الحائز على جائزة نوبل للآداب. على أي حال فإن التنوير التركي إذا ما انتصر سوف يكنس إردوغان وكل الإيديولوجيا الإخونجية الظلامية التي يتمسك بها ويرتكز عليها. والتنوير التركي سيكون داعما رديفا للتنوير العربي.
مشاركة :