بهدوء ودون ضجيج إعلامي كنت قد تصديت لبعض من القضايا الخلافية التي قد ولدت لدى البعض من المواطنين الحريصين على وطنهم وولدت إنطباعات خاطئة وسلبية. فمنذ أسابيع خلت، تلقيت اتصالاً من إعلامية متمرسة تقترح علي الولوج في قضايا الطاقة كونها أصبحت تشغل بال الجميع، سيما وإنني على حد تعبيرها كنت وزيراً للطاقة ومديراً لأول مركز لبحوث الطاقة الشمسية (المركز الذي أنشأ أول محطة لضخ المياه بواسطة الطاقة الشمسية في منطقة العمري وأول محطة لضخ المياه بواسطة طاقة الرياح في جرف الدراويش وقام برصد شدة الإشعاع الشمسي وسرعة الرياح في كل من معان وجرف الدراويش منذ العام 1981 وحتى الآن). فرددت على طلب الصحفية بالتفكير بالأمر وأنهينا الاتصال.وما هي إلا أسابيع قليلة حتى أطلت علينا أستاذة صحفية مشهود لها بالتميز والموضوعية بمقال وازن حول استراتيجيات الطاقة التي أعلن عنها، تذكرني فيه، الأمر الذي أقنعني بضرورة الكتابة (ولست بكاتب متمرس) مرة ثانية وبوضوح أيضاً.وقد يتساءل سائل لماذا موضوع الطاقة الآن وهناك ما هو أهم، فمحاولات إسرائيل المتكررة لضم أراض عربية وآخرها مشروع ضم غور الأردن، وما له من تداعيات سلبية علينا في الأردن وعلى القضية الفلسطينية، قضية الأمة، وعلى الكرامة العربية يجب أن يتصدر أولويات الاهتمام الآن. أقول، وأطمئن العموم، إن هذا الهم الوطني الذي لا يعلو عليه أي هم آخر تتولاه أيادي جلالة الملك بحكمته المعهودة وقدرته على قيادة سفينة الوطن والأمة إلى بر الأمان. وما علينا نحن كمواطنين إلا الوقوف خلف قيادته متحدين متماسكين. ولي في ذلك ما حققه الأردن في مجال السياسة الخارجية من نجاحات وإنجازات على مر السنين، كان آخرها استعادة الوطن لأراضي الغمر والباقورة دون ضجيج أو تهويل، وكذلك ما نشهده من اتصالات دولية ومتابعات حثيثة من قبل جلالة الملك للدفاع عن قضايا الوطن والأمة. وعود على بدء، أقول هل نحن حقاً بحاجة إلى استراتيجيات جديدة في قطاعات الطاقة والمياه والاتصالات وغيرها أم أن هنالك العديد من هذه الاستراتيجيات تزدحم بها أرفف الوزارات ويغلفها الغبار؟ وهل حقاً تختلف هذه الاستراتيجيات عن ما سبقها إلا بالفهرسة والتصميم والإخراج؟ فالاستراتيجيات في التعريف العلمي هي عبارة عن أطر عامة وأهداف لعشر سنوات قادمة أو ما يزيد، بينما الخطط عادة ما تكون بحدود السنتين أما البرامج فهي بحدود السنة. فأيهما نحتاج اليوم؟ لا أقول هذا اليوم وبهذه المناسبة فهذا موقفي الذي لم يتغير وللتأكيد على ذلك فإنني وقبل أربعة سنوات ونيف وفي خطاب طلب الثقة لحكومتي من مجلس النواب قد أكدت على هذا الموقف وأقتبس "وقد قامت الحكومة وعملاً بمنهج البناء التراكمي للإنجاز بتفعيل كل الاستراتيجيات والرؤى والخطط التي وضعت من قبل وهنا تجدر الإشارة إلى أن الحكومة على قناعة بأن الأردن لديه ما يكفيه من الاستراتيجيات لكن الضعف في حلقة التنفيذ" انتهى الاقتباس.إذاً فأين الحاجة للجديد من الاستراتيجيات للطاقة وغيرها من القطاعات لتحمل لنا ذات المضمون وذات الهدف الذي لا يخرج عن حدود التأكيد على ضرورة تنوع مصادر التزويد وكذلك زيادة نسبة الاعتماد على المصادر الذاتية والمحلية؟ وإذا ما أقرينا بذلك فلنا أن ننتقل الى موضوع الساعة والمحدد بكلف التعاقد المرتفعة على شراء الطاقة الكهربائية المولدة من قبل المستثمرين من ناحية والقدرة التوليدية الفائضة من الكهرباء من ناحية أخرى، والذي كثرت التصريحات والمواقف في هذه الأيام عن الحاجة لإلزام شركات القطاع المولدة للطاقة الكهربائية بتخفيض أسعارهم التعاقدية أو الاستحواذ عليها مستندين في ذلك إلى التخوف من أن تتحمل الخزينة غرامات طائلة نتيجة عدم استجرار الطاقة المولدة بالكامل وغير ذلك من أفكار وطروحات ضحلة ومستعجلة.وهنا أقر بأن انخفاض أسعار الطاقة الأحفورية نتيجة عوامل كثيرة أهمها جائحة الكورونا التي أصابت الاقتصاد العالمي بتباطؤ شديد لم يشهد له العالم مثيلاً منذ قرون يحتم علينا ليس فقط إعادة التفاوض مع الشركات المولدة للطاقة الكهربائية بهدف تخفيض أسعار شرائها من قبل سلطة الكهرباء وإنما لا بد من دراسة الإجراءات التي أدت إلى عقد الاتفاق من أصله والظروف المحيطة به والأسعار السائدة في ذلك الزمان، لنتأكد من سلامة الإجراءات وشفافيتها ونزاهتها في المقام الأول. فإذا ما تأكد لنا ذلك ذهبنا وبنية سليمة نحو التفاهم مع تلك الشركات لتعديل أسعارها بالتراضي واضعين نصب أعيننا أن الضغط غير الرزين والتهديد بالاستحواذ أو التأميم سيكون له تبعات غير محمودة تجاه المناخ الاستثماري في الأردن والذي نحن بأمس الحاجة لجلبه وتطمينه وضمان استقراره. واستدرك هنا وأقول، إما إذا ما ثبت اختلال الإجراءات أو شاب التعاقد أي شكل من أشكال الفساد كان إدارياً أو مالياً أو منفعياً فلابد آنذاك من اتخاذ ما من شأنه محاسبة المسؤولين عن ذلك كائناً من كان من خلال الاجراءات الاحترازية والقانونية دون هوادة وبكل شفافية ووضوح حماية للمال العام.ولننتقل الآن إلى الجزء الثاني من الموضوع، الا وهو القدرة الفائضة عن الحاجة وكيفية التعامل معها، فلنبدأ أولا بما أعلنه موقع (أسعار بترول العالمي) المتخصص بتتبع أسعار الطاقة في العالم والذي أشار إلى احتلال الأردن المركز الثاني عربياً من حيث ارتفاع سعر الكهرباء. وهنا لابد من أن يكون السبب في ذلك واضح للجميع، فالسبب ليس ضريبياً ولا هو سوء ادارة وإنما سبب سياسي لا دخل لقطاع الطاقة والكهرباء فيه. فعندما تتحمل شركة الكهرباء كلفة انقطاع الغاز المصري و ما تبعه من التحول إلى استخدام المشتقات النفطية في التوليد والذي قدر بمبلغ خمسة مليارات دينار، فلا بد للشركة من أن تعكس كلف فوائد هذا الدين الكبير على المستهلك، وهو أمر غير عادل لا للمواطن ولا للاقتصاد ولا للاستثمار.وللتفصيل بقدر أكبر، دعوني أوضح نقطة نتجاوزها كثيراً عند الحديث عن القدرات الذاتية للأردن في مجال الطاقة وعلى قدرته في تأمين مصادر متعددة للامداد. فالدول التي تملك مخزوناً هائلاً من الطاقة الأحفورية ليست بأحسن حال من الدول القادرة على تحويل الخام الأحفوري إلى طاقة نافعة وبكفاءة عالية. فإن تحويل الخام الأحفوري إلى الكهرباء هو بحد ذاته صناعة، كمن يحول البلاستيك إلى أنابيب و الفوسفات الى سماد وخام الحديد إلى حديد التسليح والفولاذ، فالقيمة المضافة في صناعة الكهرباء قد تكون أكبر بكثير من مثيلاتها من المنتجات الصناعية الأخرى أضف الى ذلك فإن الكهرباء تعد أحد أهم المدخلات الصناعية وأن كلفة انتاجها وبيعها للمستهلكين تنعكس بشكل مباشر على كلفة إنتاج المنتجات الصناعية والخدمية الأخرى وعلى تنافسيتها وعلى قدرة الاقتصاد في جلب الاستثمارات وتوطينها. وعليه فإن مفهوم القدرة الفائضة في إنتاج الكهرباء مفهوم خاطئ ومضلل، حيث أن زيادة القدرة الإنتاجية للكهرباء وارتباط سعره بالأسعار العالمية المنافسة يعد من أهم مؤشرات قدرة اقتصاد أي دولة على النمو واستقطاب الاستثمار فيما لو كان لديها سياسات استثمارية ناجعة.لقد سعى الأردن منذ خمسينيات القرن الماضي متفهماً ما أسلفت، إلى بناء قدراته التوليدية في مجال الكهرباء ليس فقط من حيث إنشاء محطات توليد الكهرباء وإنما في بناء القدرات الذاتية في مجال صناعة الكهرباء في المنطقة. واستذكر هنا الأخ د.هشام الخطيب الذي أصر على أن يبني القدرة الأردنية في مجال التصميم والبناء لمحطات الكهرباء من خلال إلزام الشركات الاستشارية في بدايات مشروع إنشاء محطة توليد الكهرباء في العقبة بإشراك سلطة الكهرباء الأردنية وبأيادي مباركة من خيرة المهندسين الأردنيين في التصميم والإشراف وبناء هذه المحطات، حتى ذاع صيت الأردن في هذا المجال وفي الوطن العربي، وقدم الأردن منذ ذلك الوقت العديد من الاستشارات والتصاميم لدول عربية كبرى في ثمانينيات القرن الماضي.أرى إذا، ودون شك، أن هذه الصناعة قد تجذرت وطنياً عبر العقود الماضية ودون أن يعي الكثيرون ذلك حتى أصبحنا لا نرى لها حتى إشارة في الاستراتيجية الجديدة.قلنا ما قلنا وماذا بعد؟ أولاً، وقبل كل شيء يجب أن يرفع عن كاهل المواطن والمستثمر والصناعي عبء دين الشركة الوطنية الحكومية وكذلك عبء دين سلطة المياه بحيث تتحمل الخزينة ذلك الدين وكلف خدمته، سيما وكما أسلفنا، أنه دين سياسي وليس اقتصادي وللأسباب التي ذكرت. وهو الأمر الذي كنت أسعى إليه في اتفاقية الأردن لعام 2019 مع صندوق النقد الدولي الذي أبدى مندوبه عند مناقشته من قبلي بالأمر تفهمه لهذا التوجه، إذ أن من شأن ذلك أن يقلل من كلفة إنتاج الكهرباء وبما ينعكس إيجاباً على مجموعة المستهلكين بصورة عامة.ولنأخذ الأمر خطوة للأمام، فإذا كانت العقود الحالية مع الشركات المولدة للكهرباء تشترط الشراء أو الدفع (take or pay) وأن الحكومة ستدفع كما أعلنت ما يقدر بمليار ونصف مليار دينار كغرامات بسبب تدني أسعار النفط حالياً، فمن باب أولى أن تستفيد القطاعات الإنتاجية من هذه المنحة بحيث تشتري الحكومة هذه الطاقة الإضافية وتضعها ضمن سلة الإنتاج الكهربائي من الطاقة بحيث يعاد تسعير الكهرباء في الأردن بأسعار تنافسية عالمية بما يمكن القطاعات الاقتصادية من زيادة إنتاجيتها وتحسين تنافسيتها وتعظيم صادراتها وبالتالي زيادة أرباحها وما سينتج عن ذلك من زيادة في التحصيلات الضريبية جراء النمو الاقتصادي وزيادة الأرباح، فنكون بذلك قد حققنا مقولة "الجميع رابحين" .أليس هذا التوجه ذو قيمة إضافية أفضل وأعلى من تصدير الكهرباء الخام لأسواق لا وجود لها وأفضل من إعفاءات ضريبية لا معنى لها؟إن تعظيم الاستثمار وتعزيز اعتمادنا على الذات يتطلب بالضرورة استغلال كل ما يمكن من مصادرنا الطبيعية والبشرية والعلمية وتحويلها إلى منتجات ذات تنافسية عالمية. إن وضع قطاع الطاقة في الأردن وعلى عكس ما يشيع البعض يضعنا أمام فرصة تاريخية لتسخير هذا المنتج لدعم الانطلاق الاقتصادي الذي يحقق الأمن والأمان والحياة الكريمة لابنائنا ويعالج في الوقت ذاته المشاكل المستعصية من فقر وبطالة وإحباط . ذلك فقط إذا توافرت لدينا القدرة والجرأة والحزم وعدم التردد في البناء على ما سبق من إنجازات دون هدمها وإعاده بنائها فهذا هو السبيل الوحيد لبناء الأوطان.أخيراً اختم بقول المتنبي"وكل امرء يولي الجميع محببوكل مكان ينبت العز طيب "اللهم أدم علينا وطننا جميلاً عزيزاً طيباً مباركاً.
مشاركة :