ما زلت أتذكر حماسة شيخنا أستاذ العقيدة في كلية الشريعة، وهو يتناول الردود بين الغزالي وابن رشد، قلبه كان مع الغزالي، ولكن يبدو أن عقله لم يستطع تجاوز ابن رشد، ما جعله يتخذ موقفاً مناوئاً للفلسفة كلها باعتبارها حائلاً دون فهم العقيدة الحقة، وإنما يُكتفى بعلم الكلام والجدل المفيد الموصل إلى الاعتقاد الصحيح.موقفه ذلك بُني على موقفٍ أصيلٍ لديه، أن الفلسفة تتضمن موقفاً جاهزاً حيال العالم، وأن كل مَن قرأ الفلسفة خرج مِن كتبها بنفس النتيجة. وهذا أصل لفكرة العداوة مع الفلسفة، لا من قبل المعلمين التقليديين، بل مفكرين كبار مثل ابن خلدون الذي هاجم الفلسفة بشكلٍ عنيف.الفلسفة لم تكن يوماً محتوى أو موضوعاً أو كتاباً، إنما هي فضاء تمارس من خلاله عملية شاقة من مواجهة أسئلة راهنة، يثمر تعاهدها عن كتبٍ تحمل نظريات فلسفية، توصف لاحقاً بـ«الفلسفات».ثمة تقديس للفلسفة لدى مؤيديها ومناوئيها، حتى إن الحديث عنها أو حولها أو بها يشكل حدثاً وحديثاً، بينما هي مجال معرفي يمكن التمرن عليه بالجهد والاطلاع، كثر يتناولون الفلسفة باعتبارها المجال المهول، إما على سبيل النقد والهجوم، وإما الدفاع والتأييد، ولا يستدعي المجال درجات السخط أو نشوات الاغتباط، وما من تعريفٍ للفلسفة متفق عليه، وإنما مقاربات حولها، فلكل فلسفة تعريفها، وكل فلسفة تنسب إلى سؤالها وعدتها المفهومية، ودربها النظري.الفلسفة لا وظيفة لها عليك، وإنما ما تخوضه أنت مع أسئلتك عبر مفاهيمها ومتونها ونظرياتها هو ما يحدد دروبك ومصائرك ونتائج درسك.ضمن جلبة ذلك الموقف التاريخي الرافض للفلسفة، بقيت مؤسسات التعليم مترددةً في تدريسها بين القبول والرفض. أقرّت السعودية تدريس التفكير الناقد والفلسفة في المناهج الدراسية، والهدف منه تفعيل مَلَكة النقد، ورفع مستوى حاسة السؤال على الطريقة السقراطية، كما يشرح بعض مَن ساهم في كتابة ذلك المنهج.في الأول من يوليو (تموز) الحالي، نشرت صحيفة «الاتحاد» الإماراتية خبراً مهماً، إذ «قررت وزارة التربية والتعليم تضمين المناهج الدراسية مادة الفلسفة للحلقة الثالثة في المدرسة الإماراتية، بدءاً من العام الدراسي المقبل، وتركز فيها على 3 مباحث أساسية، هي الوجود والمعرفة والقيم». هذه خطوة تنسجم مع التطلع والنمو الذي تسعى إليه الإمارات، وقطعت فيه أشواطاً مبهرةً على شتى المستويات.لكن هل تعليم الفلسفة بالإمارات يعتبر حدثاً جديداً، وهل قرار التدريس هذا إعلان بداية أم عملية استئناف؟!لدى الباحثة الدكتورة ريتا فرج دراسة مفصلة ومهمة بعنوان «تدريس الفلسفة في دول مجلس التعاون الخليجي واليمن بين التحجيم والتحريم»، مما ذكرته: «لا تدرس الفلسفة في المرحلة الثانوية (الثانويات الرسمية)... وقد ألغيت أواخر التسعينات من القرن المنصرم، بقرارٍ من وزارة التربية والتعليم، وعلى الرغم من إلغاء مادة (التفكير الفلسفي) و(التفكير المنطقي) بـ(القسم الأدبي) فقد أدرجت بعض المحاور التي ترتبط بالفلسفة في الصف الثاني عشر الأدبي، ضمن مقرر علم النفس، حيث يُعطى الطالب موادّ، مثل مهارات التفكير الناقد، ومهارات التفكير الإبداعي».الحديث عن تعليم مهارات نقدية وفلسفية في الثانويات لا يستحق كل ذلك التوجس من المعترضين. التمرين الفلسفي والنقدي مفيد للإنسان في حياته ووجوده. قبل أيام قرأتُ كتابين ظريفين، هما «عزاءات الفلسفة... كيف تساعد الفلسفة في الحياة»، والآخر «قلق السعي إلى المكانة»، كلاهما للأديب آلان دو بوتون، في كتابه الأول يشرح كيف يمكن لبعض النظريات والتجارب الفلسفية أن تساعد الإنسان على حياته، يمر بسقراط وأبقيور ومونتين وسينيكا وشبنهاور ونيتشه.من ملاحظاته الطريفة، حديثه عن كيف أسهم سينيكا في «خلق ربط دائم مع مفكرين رواقيين آخرين، بين جوهر كلمة (فلسفي)، ومقاربة هادئة معتدلة للكارثة. كان قد أدرك منذ البداية أن الفلسفة منهج تعليمي يساعد البشر على تجاوز التباينات بين أمنياتهم والواقع»، ثم ينقل عن سينيكا قوله: «أدين بحياتي للفلسفة، وهذا أقل التزاماتي حيالها». (ص 98 - 99).أما في كتابه الثاني «قلق السعي إلى المكانة»، فيدرس الصراع البشري والحضاري نحو المكانة. الكتاب مكون من 10 فصول، في الكتاب تناولات أدبية وفنية ولمحات فلسفية. مثل هذه الكتيبات والتناولات توضح أن للنظريات الفلسفية إسهامات، يمكنها أن تضيف إلى تجربة الإنسان خبرةً مفيدة في سبيل تحديد آرائه ومواقفه. يتحدث عن التطلع، عن الادعاء، عن الغطرسة، يقول عنها: «وراء الاختيال والغرور يكمن ذعرٌ مقيم» (ص 25).أكرر هنا أن الفلسفة بعمومها ليست مجال تنمية ذاتية، أو تدريب مهني، أو غرس مهارات، لكن ربما ما قصده بوتون أن كثيراً من تجارب الفلاسفة ومواقفهم ومناهجهم يمكنها تغذية مواقف الإنسان وخبراته.من قبلُ، طرح الفيلسوف ليوتار سؤالاً «لماذا نتفلسف؟» قاربه في كتابٍ، ومما ذكره: «إن الجواب على السؤال يوجد في السؤال الذي لا مفر منه (لماذا نرغب؟) والرغبة التي تمثل الفلسفة ليست أقل انحباساً من أي رغبةٍ كانت، غير أنها تتضاعف وتضع نفسها موضع سؤالٍ في حركتها ذاتها. وزد على ذلك أن الفلسفة ليست في الواقع سوى مساءلة الأشياء». (ص 43).المقصود هنا أن تدريس الفلسفة مثله مثل تعليم أي مادة، بعض المفكرين يعترضون على تدريس الفلسفة، لأن في تعليمها عملية تحويل لها من مجالها الرحب والواسع إلى ما يشبه المحفوظات والملفوظات، وهذا محل نقاشٍ طويل، وقد اشتبك عبد الرحمن بدوي في تونس مع آخرين ضمن ندوةٍ نظمتها «اليونيسكو» حول تعليم الفلسفة أوائل الثمانينات.تدريس الفلسفة في التعليم العام بالإمارات عملية استئناف حيوية لما بدئ من قبل؛ إذ تمنح الفلسفات قارئها الخيال الخصب، والقدرة على المحاججة، وعدم التهيب من السؤال، والتمرن على الصياغة والقول، وهي خطوة مهمة لمستقبل التنمية والمعرفة في البلاد.
مشاركة :