أعترف أني ربما أكون واحدا من قلة من الناس في الوطن العربي مازالت تحلم بأن تستقر دعائم دولة القانون في بلادنا من المحيط إلى الخليج، وتتصور أن هذا الحلم قابل للتحقيق، ربما ليس خلال فترة حياتها، التى لم يعد فيها بالنسبة لي الكثير من السنوات، ولكن حتي بالنسبة لمن يشاركونني هذا الحلم، من الشباب، فهم أيضا من الواقعية بحيث يرون أن فترة إنتظار تحقق الحلم هي طويلة حتي بالنسبة لأكثرهم تفاؤلا. والسبب في أننا نرى أن الحلم قابل للتحقيق هو أنه واقع بالفعل في دول كثيرة في العالم، وليس هناك ما يدعونا للاعتقاد بأن العرب هم فصيل مختلف عن غيرهم من البشر، أو أن سمات معينة في ثقافتهم أو تاريخهم هي التى تضعهم في فئة لا ينطبق عليها ما انطبق على البشر الآخرين في بقاع أخرى من العالم، وخصوصا وأن ثوراتهم في بداية هذا العقد، وقد كانت صيحة لإستعادة الكرامة الإنسانية، قد دعت ضمنا إلى إعلاء راية دولة القانون، حتي وإن لم تستخدم هذا الشعار، فالكرامة الإنسانية لا يمكن أن تتحقق بالكامل إلا في ظل دولة القانون. أول معالم حلم دولة القانون هو مضمون القانون ذاته، فليس كل مايسمي قانونا هو صالح لأن يكون قاعدة ملزمة في دولة القانون. في تلك الدولة القانون هو قاعدة عامة لم تجر صياغتها لحماية مصالح خاصة، ولا لعلاج حالة مؤقتة، بل هو قاعدة موضوعية مجردة تنشأ للتعامل مع وضع عام في المجتمع، وتلقي قبولا واسعا في هذا المجتمع، وهى تتسم بالشفافية . ومعيار موضوعية القانون الذى يقبله العالم بأسره هو أن يكون متوافقا مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان التى صادقت عليها حكومتنا مع معظم دول العالم، ويفترض أن تكون نافذة في تشريعاتنا. وثاني معالم هذا الحلم أن هذه القواعد الموضوعية ملزمة للحاكم والمحكومين، بل هى ملزمة للحاكم قبل أن تكون ملزمة للمحكومين، لأنهم سوف يحترمونها وكل القواعد الأخرى عندما يرون حكامهم يسترشدون بها ولا يخرجون عنها فيما يستنونه من لوائح، وفيما يطبقونه من إجراءات. وثالث هذه المعالم أن هذه القواعد تخرج من سلطة تشريعية جاء أعضاؤها ليتولوا مهامهم بعد إنتخابات حرة ونزيهة ومفتوحة للجميع بدون تمييز. ورابع هذه المعالم أن القضاء يلتزم أيضا بهذه القواعد، وأنه جهازمستقل يتميز بالمهنية العالية، لا يخضع لضغوط من أى نوع، ولا يستسلم القائمون عليه للأهواء فيما يصدرونه من أحكام. وخامس هذه القواعد أن أجهزة الدولة الأخرى المسئولة عن إنفاذ القانون، أو عن حماية المجتمع من الاعتداءات الداخلية والخارجية مثل الشرطة والقوات المسلحة لا تخرج عن هذه القواعد مهما كانت التحديات التى تواجهها في أدائها لمهامها، حتي ولو تصور بعض المواطنين أن بينهم وهذه الأجهزة خصومة من أى نوع. وأخيرا أن الرأى العام يصر على إحترام هذه القواعد، ويتنبه لمحاولة الخروج عنها، ويقاوم هذه المحاولات، من خلال الصحافة والإعلام المرئى والمسموع وأدوات التواصل الإجتماعي التى تسهم بدورها في توضيح هذه القواعد لكل المواطنين، وتذكرهم بكيفية إكتشاف حالات إنتهاكها. قد يتنبه البعض إلى أني ربما استغرقت في الحلم حتي حلق بي بعيدا عن أرض العرب من المحيط للخليج، وأنه ربما بسبب كثرة أسفاري إلى مجتمعات أخرى، أو قراءاتي للمدن الفاضلة في كتابات الفلاسفة، أغفلت أن الحلم لكي يتحقق لابد أن يكون قابلا للتحقق، وأن خواطر النائمين ليلا يذيبها الصباح. أنتم علي حق. الصعوبات بل والتحديات هائلة، وهى تنقض على كل واحد من معالم الحلم. مضمون القانون نفسه ليس موضع إتفاق. هناك من يرفض القانون المكتوب في الجرائد الرسمية العربية والذى يدرس لطلبة كليات الحقوق بدعوى أنه مستورد من الدول التى إستعمرتنا سابقا، وأنه لابد من إعادة صياغة كل قوانيننا لكي تستلهم من الشريعة التى يدين بها معظم من يعيشون في وطن العرب، بعضهم يقول أن المطلوب فقط هو إعادة صياغة 5% من القواعد القانونية التى لا تتفق من وجهة نظرهم مع الشريعة الإسلامية، والبعض الآخر، ومنهم أنصار من أطلقوا علي أنفسهم وصف الدولة الإسلامية، ينادون بإعادة صياغة كل القوانين، وربما يتركون هذا الأمر لمن يعتبرونه خليفتهم ومعاونيه. وهناك من يرى حكمة الإبقاء على القوانين الحالية، ولكنه يرى عدم التقيد بها مؤقتا حتي تخرج المجتمعات العربية من أزماتها، والتى تتفاوت ما بين مقاومة الإرهاب إلى الدفع بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والحاجة للإعداد الثقافي للمواطنين لكى يصبحوا قادرين على التعبير عن آرائهم بحرية. كما أن هناك حكامنا الذين يضيقون بكل هذه القيود التى تفرضها دولة القانون عليهم، وهم لا يريدون أن يخرجوا عما سار عليه كل أسلافهم. لم يتقيد هؤلاء الأسلاف بحكم القانون، فلماذا يريد أحد أن يلتزم حكامنا بما لم يعرفه من حكموا من قبلهم؟. وحكامنا طبعا حتى لو رأوا أى وجاهة في دولة القانون فإنهم يسرعون بالقول أن هذا شأن مجتمعات غيرنا، وأن أمامنا عقودا من الزمن لابد وأن تنصرم حتي يقترب حالنا من حال هذه المجتمعات. وبطبيعة الحال يكون هؤلاء الحكام قد مضى عهدهم، فيكون علينا أن نواجه بهذه الدعوة حكاما غيرهم. ثم أن إمكانية صدور هذه القواعد عن سلطة تشريعية منتخبة غير قائمة، فهذه السلطة لا وجود لها بعد في بعض مجتمعاتنا، وهى خاضعة للحاكم في بلاد أخرى، أو لا تملك سلطة التشريع، أو أن خلافاتها الداخلية أو انعدام الأمن لا يمكنها من القيام بدورها. ويجد القضاة أنفسهم حائرين بين قوانين تعكس مصالح خاصة، وسلطة تريد منهم التعجل فى الحكم على المواطنين، و يمارس بعضهم مهامه على نحو يفتقد المهنية. كما أن الأجهزة المنوط بها إنفاذ القانون مثل الشرطة والقوات المسلحة تستسهل التحرر منه، وتعلم أن ذلك يلقي القبول والإستحسان ممن يقومون علي شئون الحكم. وينقسم الرأى العام بين من لا يرى ضرورة للتقيد بالقانون طالما أن الحكام أنفسهم لايتقيدون به، أو من يرفض القانون لأنه في رأيه مستورد من الدول الإستعمارية السابقة، ومن يرى ضرورة تأجيل حكم القانون حتي تنصلح أحوال مجتمعاتنا. *** أرهقت القراء، متحدثا عن حلمي، شارحا التحديات التى تواجه تحقيقه، ومصارحا بأني لا أرى إمكان إرتدائه لباس الواقع في المستقبل القريب، ومع ذلك مازلت مصرا عليه، فماهى أسباب هذا الإصرار؟، لدى أسباب قوية للتمسك به أولها أنه بدون دولة القانون فلا أمل لنا في إحراز أى تقدم في أى مجال من المجالات، لا في مكافحة الإرهاب، ولا في النمو الإقتصادى، ولا في تحقيق العدالة الإجتماعية وبكل تأكيد ولا في إقامة قواعد الديمقراطية. تجاهل حكم القانون ينقل قطاعات واسعة من المواطنين من دائرة أنصار السلطة إلى دائرة خصوم السلطة وربما المتعاطفين مع الإرهاب، هؤلاء المواطنون هم أقارب من يغيبون وراء جدران السجون بلا إتهامات ولا تحقيق ولا محاكمة، أو من عوقبوا على أساس أدلة واهية ومحاكمات متسرعة، بل وينضم إليهم من يعانون من قرارات متعسفة إتخذتها السلطات الحاكمة في بلادهم بلا روية أو خدمة لمصالح خاصة قصيرة الأجل. ولعلنا نستلهم الحكمة من تجارب الآخرين. الدول التى نجحت في مكافحة الإرهاب ربما تكون قد توسعت في منح أجهزة المخابرات والأمن سلطات إستثنائية، ولكننا لم نعرف أن أيا من هذه الدول أوقف نظامه الديمقراطى مؤقتا بدعوى مكافحة الإرهاب. لم تلغ أى من هذه الدول عمل سلطاتها التشريعية، ولم تؤجل الإنتخابات، ولم تحل الأحزاب السياسية ولا صادرت الصحف أو ألغت العمل بنصوص الحريات المدنية والسياسية في دساتيرها. كما أن استقرار الأوضاع الاقتصادية واجتذاب الاستثمارات الخاصة والأجنبية يقتضى التيقن من حكمة القرارات الاقتصادية، وأنها تسترشد بقواعد ثابتة لا تعكس نزوات الحاكم وأحلام عظمته وتخرج بعد مشاورات واسعة مع كل من يهمه أمرها في المجتمع، ومن الواضح أن الحكم الديمقراطى لا تقوم له قائمة إذا ما كانت سلطة الحاكم مطلقة أو كان لا يلقي بالا لمبدأ الفصل بين السلطات. هل يشاركني القراء حلم دولة القانون؟ وهل بوسعنا أن نعمل من أجل تقريب يوم تحققه في مجتمعاتنا؟
مشاركة :