يتحدث البعض عن كون الليبرالية لا تتناقض مع الإسلام كليًا أو جزئيًا؛ ويؤسفني أن أقول: إن القول بأن الليبرالية تتوافق مع الإسلام كدين كليًا أو جزئيًا هو الوهم الكبير. ولعل ما حدا ببعض الطيبين لأن يقولوا مثل هذا القول إنما هو توهمُهم بأن الليبرالية هي التحرر من سلطة رجال الدين، وما يسمونه في أوروبا بالتخلص من الكهنوت والإكليروس، وهذا كما قلتُ وهم كبير، لأن تخليص الناس من السلطة الذاتية باسم الدين لمشايخ الطرق وسدنة قبور الصالحين، هذا هو ما جاء به المنهج السلفي الذي جدد دعوة الإسلام، بإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فالإسلام الحق الذي جدده المنهج السلفي يأمر العباد بألا تكون عليهم سلطة إلا لله تعالى ممثلة في النص الشرعي من كتاب وسنة، أما علماء الشريعة فليس لهم سلطة على أحد، وإنما لهم مكانة يفرضها مدى ما يحملونه من نصوص شرعية وما يملكونه من أدوات علمية في فنون الحديث، وأقوال المحدثين لمعرفة درجة تلك النصوص من الصحة والضعف، وما يتقنونه من فنون اللغة وأصول الفقه لفهم تلك النصوص، وما رُزِقُوه من المَلَكَة لفهم النوازل الحادثة وتنزيل النصوص عليها، وقدرتهم على استنباط علل الأحكام المنصوصة ودراسة المستجدات وإيجاد العلل المناظرة لتنزيل الأحكام عليها. من هنا يأخذ العلماء مكانتهم في المجتمع، كما يأخذ المهندسون والأطباء مكانتهم بقدر ما يحملونه من علم في اختصاصهم ومدى حاجة الناس لهم، بيد أن لعلماء الشريعة شرطًا ينبغي أن يوجد فيهم فإن تخلف ضَعُفَ قدرُهم ولو عظم علمهم، ألا وهو التقوى والورع الحاملان على مزيد من الطاعات واجتناب المعاصي وخوارم المروءات، والتمسك بالأخلاق الطيبات مع سائر الناس وفي شتى المجالات، فعالم الشريعة إن خلا من ذلك أَسْقَطَ مكانته حتى لو اتسع فهمه وعلمه، وذلك أن الناس لا تُقَلِّدُ أمر دينها لمن لا يُقِيمُه في نفسه، فإن صح ذلك منه دانت له القلوب المُذعِنة لربها من تلقائها، واتخذت من مكانته سلطة عليها لم يطلبها هو، بل لا يريدها ويتبرم منها ويَعُدُّها ابتلاءً من الله له واستدراجًا، فتراه وجِلًا من إقبال الناس عليه خاشيًا على نفسه من الاغترار بها أو الركون إليها. أما حين يفرح بالأتباع ويبذل الجهد في الاستكثار منهم فهذا من مهددات خلوص نيته لله، وقد تكون حاملًا له على اتباع رغباتهم وما يرضيهم عنه أكثر من حرصه على اتباع أمر ربه، وذلك مما يظهر للملأ وإن سعى العبد إلى إخفائه، ولن يلبث إن لم يدرك نفسه حتى يضعف الانقياد له والانصياع لرأيه، وكما قال الأول: ومهما تكن عند امرئ من خليقةٍ وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ فبما أن الليبرالية ليست هي ما يتوهمه كثير من الكتَّاب؛ فما هي الليبرالية إذًا؟ الجواب أن الليبرالية ظهرت في مطالع النهضة الأوروبية كما أسلفنا في المقال الأول من هذه السلسلة، ويسميها المؤرخون للفكر الأوروبي بالتنوير، وكانت تعني عدم الالتزام بتفسيرات الكنيسة للدين وللكتاب المقدس، وهي بهذا التفسير الذي لم يطُل أمده كثيرًا لا يُمكن أن تَصلح لنا؛ وذلك لأنه لا يوجد لدينا تفسير للكتاب والسنة خاص بالعلماء، بل النصوص الشرعية إنما تُفسَّر ببعضها تارة وبدلالة اللغة العربية تارة أخرى، وإذا خالف التفسير هذين الأمرين فهو تفسير باطني أو مبتدع لا يجوز الأخذ به، وهذا بعكس الكتب النصرانية التي لم تكن الكنيسة تفسرها فيما يتعلق بقضايا العلم بمقتضى اللغة، بل بموجب أهواء المجامع الكنسية التي كانت الكاثوليكية تعتبرها وحيًا من الله تعالى، فالبابا عندهم ملهم من الله، وما تصل إليه المجامع الكنسية من قرارات هو إلهام من الله، وما فعله التنويريون الأوائل هو أنهم أنكروا أن يكون ذلك وحيًا وأعطوا أنفسهم حق التفسير، وهم في ذلك محقون، لكن هل يصلح ما ذهبوا إليه عندنا؟ الجواب: لا، لأن المشكلة التي عانوا منها ليس لها وجود عندنا مطلقًا، وما يفعله الليبراليون من ادِّعاء وجود هذه المشكلة بين علماء الشريعة والكتاب والسنة هو كذب على الواقع والتاريخ، والمفارقة العجيبة هي أن ما كان يفعله القساوسة في كتابهم من تجاوز اللغة في تفسيرهم والإتيان بدعاوى لا تُقِرُها النصوص، هو ما يريد كثير من الليبراليين المسلمين فعله في الكتاب والسنة، وما كان يطلبه التنويريون الأوائل من الالتزام بالمدلول اللغوي الموافق للعقل في تفسير الكتب النصرانية هو ما يفعله علماء الإسلام أتباع منهج السلف مع الكتاب والسنة! وليست بدعة الفهم التاريخي للنصوص والتي يتشدق بها بعض الليبراليين منا ببعيد، حيث يعمدون إلى إنكار قطع السارق ورجم الزاني بأن ذلك فهم قديم للنصوص، ونحتاج فهمًا يوافق متطلبات العصر! فالحقيقة: أن الليبراليين المعاصرين أخذوا دور الرهبان في عهد التنوير الأوروبي، والعلماء هم أهل التنوير الحق والذين يريدون صيانة النصوص من عبث الأهواء. ثم تطورت الليبرالية في أوروبا وتنوعت تنوعًا كبيرًا كثرت معه مذاهب الليبراليين، وكانت الحِقبة تأتي فيسود فيها نمط معين من الفكر الليبرالي ثم تأتي حقبة أخرى يعتبر فيها ذلك النمط تقليديًا والنمط الجديد هو الليبرالي، فليبرالي الأمس هو تقليدي اليوم، فقد كان الفكر الديكارتي هو السائد في القرن السابع عشر، وهو فكر يعتمد على الشك والبحث عن جديد، ويرى أن عملية البحث بعد الشك ستوصلك حتمًا إلى الدين والاعتقاد بالله باعتبارها معارف فطرية، فجاءت بعده حقبة الثورة الفرنسية التي أصبح فيها فكر ديكارت تقليديًا والفكر الإلحادي هو الليبرالي، فظهرت العدمية والوجودية بمدارسها المختلفة والفرويدية، وما كان لها من آثار في تبرير الانهيار الأخلاقي، ولازال الأوروبيون حتى اليوم ينقسمون إلى تقليديين وليبراليين، فالتقليديون هم أصحاب المدرسة أو الفكر السائد، والليبراليون هم أصحاب المدرسة الجديدة. ومن اللطيف أنه في أوروبا يوجد أيضا مدرسة فكرية تسمى السلفية تدعو إلى العودة إلى التراث والارتباط به، ويمكن للقارئ أخذ معلومات أكثر عنها من كتاب تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم. والمُحَصِّلة مما تقدم: أن الليبرالية ليست فقط لا تتوافق مع الدين بل هي مضادة له، ومن يقول: إن الليبرالية تتفق مع الدين الإسلامي كليًا أو جزئيًا هو جاهل أو مغرر به، هذه هي الحقيقة. فإذا كانت هذه هي الليبرالية فما علاقتها بالتنمية؟ الجواب: تنحصر علاقة الليبرالية بالتنمية فقط في ذلك الظرف التاريخي الذي ثار فيه العقل الأوروبي متأثرًا بالحضارة الإسلامية على الجمود والخرافة الكنسية والهيمنة البابوية على العقول والأنفس والقلوب، وكانت أوروبا في حاجة إلى ذلك كي تنهض، أما في عالمنا الإسلامي فقد كنا في حاجة إلى أمر آخر وهو العودة إلى الدين الصحيح، وهو ما تم فعلًا بدعوة الشيخ والإمام في الجزيرة العربية، وكان حريًا بهذه الدعوة أن تلقى القبول في جميع أنحاء العالم الإسلامي في ذلك الوقت المبكر الذي قامت فيه، وكان والله أعلم بما يكون، لو تم ذلك لكان للأمة وللنهضة الحضارية شأن آخر. أما الليبرالية فبعد إسقاطها للعرش البابوي استمرت علاقتها بتحرير الأخلاق والآداب والقِيَم من أي سلطة كانت، سلطة الدين أو رجاله، أو سلطة الدولة ورجالها ومؤسساتها، وعملت على تفكيك الأسرة وهدم المجتمع الرصين، فالليبرالية الأوروبية وحدها هي المسؤولة عن الانهيار الأخلاقي في أوروبا وعن حلول الفلسفة البراجماتية مكان القيم الأصيلة التي توارثتها البشرية بجميع أديانها وجهاتها، وكل ذلك هو ما يريد الغرب ولو بالقوة تصديره لجميع العالم. أما ما حدث من التنمية في أوروبا بعد انفلات العقل البشري من ربقة الكنيسة فنشاط إنساني طبيعي هو جِبِلَّة الإنسان إذا لم يحل بينه وبين مقدرات الأرض شيء، وبهذا النشاط الطبيعي الإنساني وصل الصينيون القدماء إلى ما وصلوا إليه من حضارة لا زال العالم يستفيد منها، وكذلك الهنود الأُول وقدماء المصريين والروم والفرس والعرب الأوائل. ويمكنك النظر إلى مخطوطاتهم وآثارهم العمرانية لتعرف مكانة تلك الأمم. حظ الأوروبيين أنهم جاؤوا متأخرين وساعدتهم حركة الاستعمار على جمع ما كان عند الأمم من معارف وانطلقوا من حيث انتهى الناس، وليس لليبرالية علاقة بكل ذلك، فما هو إلا نشاط يقوم به البشر في كل زمان ومكان إذا توفرت له البيئة المناسبة. نعم ربما كان لليبرالية أثرٌ في اعتماد الربا كعمل اقتصادي سائغ ومخالف للأصول النصرانية واليهودية التي تحرم ذلك، وهذا المحرم الذي استباحه الغرب باسم الاقتصاد الرأسمالي هو الدمار المالي الذي يعاني منه العالم وليس الغرب وحده. إن الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكما فهمه السلف الصالح ليس في حاجة إلى أي فكر وافد أو مصطلح جديد كي يدعو الناس إلى التنمية، إلا إذا كان المراد بالتنمية تحطيم الأخلاق والقِيَم وتعدي حدود الله، وهذا ما اُجِلُّ الليبراليين السعوديين عنه.
مشاركة :