تثار دائما في السنوات الأخيرة مسألة تخلف النقد عن ركب الشعر، كما تثار أيضا التقسيمات بين الجديد والقديم، وكلا المسألتين تحتاجان إلى التفحص قبل تحولهما إلى حكمين خاطئين. فالنقد لم يتخلف عن مواكبة الشعر بشكل كلي بقدر ما هي علاقة الشعر بالنقد التملص دائما، أما الإقرار بتقسيم الشعر زمنيا بين قديم وجديد فهو غير موفق، بل الأجدر تقسيمه وفق الجذور وتفرعاتها كما يدعو إلى ذلك الناقد عبدالقادر الرباعي. عمان – يحتفي الدكتور عبدالقادر الرباعي في كتابه “حفريات النص الشعري الجذري” بالهيرمنيوطيقا أو التأويلية وتمثلاتها في تحليل الخطاب الشعري، وبما يندرج ضمن اهتمامات الناقد في القراءة الجمالية للشعر العربي في أصوله العريقة خاصة. ويستهلّ الرباعي كتابه، الصادر عن “الأهلية للنشر والتوزيع”، بفحص مرتكزات التأويلية من خلال آراء أقطابها المؤثرين أمثال شليرماخر، ودلتاي، وهايدغر، وجادامر، وبول ريكور، لكنه يفيد من نظريات ما بعد الحداثة أيضا، مثل السيميائية وجماليات التلقي. تأويل الشعر للتأويلية في الكتاب أعمدة فلسفية تتمثل بمثلث يحمل أساسها الفكري. وأهم عناصره “الفهم” أولا، و“التفسير” ثانيا، و“التطبيق” ثالثا. ولأن هذه العناصر تعمل على تحليل نص الخطاب، فإن عملها متشابك ومتحد في آن. فقد ركز جادامر بشكل خاص على العنصر الثالث (التطبيق)، لأنه -بحسب ما يرى- تجسيد للمعنى وتطبيقه في ذات المؤوّل. ولهذا قال “إن الانصهار الداخلي للفهم والتفسير يقود إلى العنصر الثالث في المشكلة التأويلية؛ أي التطبيق”. وتعليقا على هذا الرأي يرى الرباعي أن مصطلح “التمثل” قد يكون أقرب من مصطلح “التطبيق” إلى فهمنا للفن عامة، والشعر خاصة؛ ذلك لأن مرحلة التأويل مرحلة معقدة، فهي تتركز على فاعلية الذات بإقامتها حوارا داخليا مع أبنية النص، وفراغاته، وتحيزاته. ويؤكد الرباعي أن هذه المهمة الصعبة تحتاج إلى ما هو أكثر من الفهم الأولي والتفسير الظاهري لمجموع تلك الأبنية. ومن أجل هذا لا بد من مرحلة أكثر حفرا في العمق تمتزج فيها ذات المؤوّل بكل حيثيات النص الداخلية على تشابكها وتقاطعها وتعقيداتها، ومن ثم الغوص في أبعادها المحتملة أو الممكنة، لاتخاذ موقف ذاتي يبلورها نص جديد ولّده التمثل الذاتي لقارئ النص قبل التأويل. ووفقا لما يرى الرباعي، لا تتكامل عملية الحفر المعمقة إلا بتقمُّص أبعاد النص السطحية والعميقة أو ما يكن تسميته “مرحلة التمثل”، وهي مرحلة شعورية إنسانية جمالية فنية تليق بعالم الشعر خاصة، والفن عامة. ولأن مصطلح “الجذري” في العنوان قد يثير إشكالا للفهم عند بعض القراء، يوضح الرباعي أنه منذ كتابه الأول “الصورة في شعر أبي تمام” (1976) كسر مفهوما مكرَّسا للتفريق بين الشعرين القديم والجديد إبداعا ونقدا، وهو مفهوم تبنّاه “نفرٌ محافظ ومؤثر في بعض الأوساط المعرفية والنقدية”. وبدلا من ذلك التفريق، يدعو الرباعي إلى أن نتعامل مع الفن والشعر على أساس الخصوصية الخاصة، بعيدا عن التصنيف الزماني والمكاني؛ لأن للفن، والشعر جزء مفصلي منه، روحا تحيا بـ”الموهبة والإبداع والتشكيل الفني الراقي”. ويضيف “لقد كُرِّس ذلك منذ أن عرف التاريخ طبيعة الكلمة النابضة بالحياة والجمال والإنسان، زمن أفلاطون وأرسطو ومن تلاهما كالجاحظ والجرجاني وحازم القرطاجني. ومن ذلك الشعر اليوناني والروماني إلى يومنا هذا”. وانطلاقا من هذا، ينظر الرباعي إلى الشعر العربي نظرته لشجرة باسقة؛ جذرها في الأرض وعلوّها ممتد لا حدود له. ويتابع بقوله “ما الشعر الذي أُطلقت عليه سمة العصور القديمة إلا شعر جذري، لكونه الجذر لكل ما نما منه كالشعر العمودي، وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر، وما سيتلو”. وبناء على هذا الفهم لتأسيس مفهوم جديد للشعر العربي يتجاوز الزمن إلى الشكل، أطلق اسم “النص الشعري الجذري” بديلا للنص الشعري القديم، وفي هذا السياق قرأ قصيدتين جذريتين، إحداهما لكعب بن زهير، وثانيتهما لابن المعتز. ومن بعدهما أعاد قراءة نماذج من التراث النقدي التطبيقي في ضوء النظرية التأويلية التي حمل مرجعياتِ آفاقِ مصطلحها الفصلُ الأول من الكتاب. قراءات تطبيقية يخصص الرباعي الفصل الثاني لقراءة النص الجذري الأول وتحليله قصيدة البردة للشاعر كعب بن زهير، تحليلا سيميائيا تأويليا. والتأويل كما هو معروف، يشكل العنصر الذي أضافه بيرس إلى السيميائية متجاوزا به عنصرَي الدالّ والمدلول عند دي سوسير. فقد أضاف إليهما بيرس، بحسب الرباعي، عنصرا ثالثا هو “المؤول”، موضحا أن السيميائية في أصولها الأولى تنتحي نهج البنيوية في سيادة المنهج العقلي لدراساتها حول الشعر والفن عموما، إلا أن أعلامها المتأخرين انحازوا إلى المنهج الجمالي في النقد؛ وذلك بإعلائهم المعنى الإنساني، فالعلامة السيميائية عند جيرالد لودال مثلا تُعنى بالرابط الجمالي بين عالم الإنسان وعالم الأشياء، في شكل فني ذي دلالات حية تنأى عن التجريد والجمود. ويعدد المؤلف أمثلة مشابهة لدى كل من إمبرتو إيكو وريفاتير وروبرت شولتز، متوقفا عند ما قيل حول المشاعر الإنسانية في السيمياء من مقدمة جاك فونتيني على كتاب “سيميائية الأهواء” الذي ألّفه مع غريماس، إذ يقول فونتيني “كان الحديث عن المشاعر وحالات النفس والأهواء في علوم اللغة في الخمسينات والستينات مرادفا لجرم علمي كبير؛ لذلك شكل تطور سيميائية الأهواء وحالات النفس حدثا منهجيا حقيقيا إن لم يكن إبستمولوجيا“. وتعقيبا على ما سبق، ينتهي الرباعي إلى القول “إن التأويل الفني يقتضي الابتعاد عن الإغراق في المحفوظ من المصطلحات الجافة في النظريات النقدية، بما فيها السيميائية ذاتها، وإنما بتحويل ذلك كله إلى لغة حية تستخرج المخزون الانفعالي من النص، وتؤدي إلى تحفيز المتلقي وإمتاعه“. وهذا ما انتهجه الرباعي في قراءته لقصيدة “بانت سعاد” (أو البردة) لكعب بن زهير. فقد مكّنه منهج النظرية السيميائية بتمثلاتها الجمالية الجديدة من تحليل نصّي نوعي للبردة، بحيث أتت نتائج هذا التحليل السيميائي مختلفة عن نتائج الدراسات السابقة للبردة، وذلك من حيث التحول عن القراءة المباشرة إلى القراءة المستبطنة للجمل، والفقرات، والأقسام الشعرية، والصور الفنية، والإيقاعات الموسيقية؛ وتلونها ارتفاعا وانخفاضا بحسب درجات الانفعال في اختلالات مجرى النص المتباينة حدّ التناقض أحيانا. ويختصر الرباعي كل ذلك بعبارة يختم بها تحليله المطول “كان تحليل الخطاب الشعري للبردة توسّلَ بالسيمياء منهجا ونظرية، ولكن بعد سلوك طريق جدلي تحفيزي لأفكار متضاربة، أو ما يمكن تسميته (سيميائية الجمال)، التي تتجاوز حدود الزمان والمكان إلى التعالي فوق القيود والجمود لديهما“. ويخصص الناقد الفصل الثالث لتحليل “عينية” ابن المعتز، ومطلعها: الدار أعرفها ربى وربوعا/ حتى أساء بها الزمان صنيعا. ويؤكد المؤلف أن تحليله للخطاب في نص هذه القصيدة أتى من خلال الوعي لإنتاجية التأويل، مستفيدا من نظرية التلقي واهتمامها بأفق النص. من خلال استجابته لمصفوفة الأفق هذه، وجد طريقه إلى الفهم ومنه إلى التأويل، مؤكدا أننا حين نؤول نصاً فإننا نُحدث علاقة حميمية بين تجربتنا وتجربة الآخر. فالمهمّ كما يقول مصطفى ناصف “تجربة الاكتشاف، وتجلي الذات، ومعرفة النفس، وانفتاح الأفق واستقطاب المعنى الإنساني الأعمق في النص”. ويؤكد الرباعي أن إعادة قراءة التراث النقدي التطبيقي في نماذج أساسية ومفصلية، كالمعنى واللفظ، والغموض، والتضمين (التناص)، والتعقيد، وعمود الشعر، وفق نظرية التأويل واستيعاب مداراتها المفيدة للشعر وللنقد على حد سواء، غدت عبئا ثقيلا لا بد من حمله والانصياع له. ذلك أن الإشكالية بين النقاد والشعراء في تلك المبادئ الأساسية المتضمَّنة في الموروث النقد التطبيقي، وخاصة المعنى الشعري فهما وتطبيقا، كانت حقيقة تاريخية لم تصل في العصور السالفة إلى الحد الأدنى من التوافق بين الفرقاء، وخاصة الشعراء حاملي نهج التجديد. ويوضح أن التأثير الأكبر في الأحكام غير المقنعة على الشعر، كان مصدره الجو العام الذي تبنّى رؤية مسبقة مؤداها تفوُّق القديم عامة، وقصور الجديد عامة. وكان من نتائج تلك الأحكام، التشكيك في جدارة النهج الشعري الجديد حدَّ رفضه غالبا، والتمسك بالنهج الشعري القديم حدَّ تقديسه غالبا. ووفقا للرباعي، فإن استغلال نظرية التأويل بالفهم السوي لمدخلاتها الفلسفية ومخرجاتها الجمالية، يمنح الناقد الماهر آفاقا واسعة يطل منها على أبعاد متفوقة في قراءاته للشعر قديما وحديثا، على أساس أن الشعر أينما وُجد: زمانا ومكانا، مكوِّن جمالي إنساني يستوي فيه الفن شكلا والمعنى روحا؛ بقطع النظر عن اختلاف اللغة والعصر والجنس. ومن خلال هذا الفهم لطبيعة الشعر ومهمته في الحياة والكون، يقرأ المؤلف شعرنا الجذري والحصيلة النقدية التي مورست عليه قديما، قراءة تأويلية معاصرة، مؤكدا أن هذه القراءة منحته فرصة لتجريب ثقافته وذوقه، ومن ثم التوازن بين رؤيته وفعله، في عمق الاكتشاف، وحيوية التمثل، وبراعة التطبيق والتأويل. وفق الرباعي، فإن استغلال نظرية التأويل بالفهم السوي لمدخلاتها الفلسفية ومخرجاتها الجمالية، يمنح الناقد الماهر آفاقا واسعة يطل منها على أبعاد متفوقة في قراءاته للشعر قديما وحديثا ويوضح الرباعي في هذا السياق “لسنا هنا لنحاكم أسلافنا النقاد القدماء في ما نظن أنهم أخطأوا فيه، إذ ليس من الصواب أن نقيس مقاييسهم بمقاييسنا الحاضرة، ولكننا حاورنا الشعر الذي قالوا فيه كلاما نقديا محاورة جديدة مختلفة نوعا؛ فوصلنا فيها إلى اكتشاف قيم جمالية لم تكن اكتُشفت من قبل. وبناء على هذا نقول: إن معيار العقل والمنطق، وكذلك معيار الأخلاق والواقع قادا إلى تكريس الشكلية مبدأ أساسيا طُبّق على الشعر والشعراء، ولوّن الجزء بعيدا عن أثر الكل، الأمر الذي ترك المنقود مكشوفَ الظهر، معرضا للميل عنه، أو الحيف عليه“. وخلاصة ذلك وفق الرباعي، أن النقاد اعتمدوا في نقدهم مبدأ نقديا ثابتا عند أكثرهم، تمثل بعمود الشعر الذي جلب معايير غدت قوانين لا حياد عنها. وكان من نتائج ذلك محاصرة الشعراء الجدد الذين ابتعدوا عن نهج القديم خاصة، ومناصرة الشعراء الذين اعتقدوا أنهم مازالوا يسيرون وفق سنن القديم. ويضيف “إنّ مناصري هؤلاء الشعراء جاروا عليهم أكثر مما جاروا على الشعراء الجدد. ذلك أنهم أدرجوهم في زمرة المقلدين أكثر من إدراجهم في زمرة المبدعين. ومثال ذلك الشاعر البحتري الذي احتفوا به ظنا منهم أن شعره يحاكي سياق الشعر القديم، وهو لهذا السبب تفوق، بحسب مقياسهم، على أستاذه أبي تمام شاعر البديع، الذي خرج في نصه الشعري على المألوف والمتبع. ويحدثنا التاريخ في رصده لأقوال البحتري أنه لم يكن مبتهجا بأحكامهم في تفوقه على أستاذه“. وأخيرا يمكن القول إن هذا الكتاب ينطلق من مكونات التأويل المتماسكة، مؤولا نصوصا شعرية، ومراجعا نقودا تراثية وفق رؤية نقدية عصرية تستحضر “الحفر جماليا في جذور النص الإبداعي”، معتمدا طروحات أهم النظريات العالمية التي اعتمدت تمثلات التأويلية أسسا مكينة، لاستيعاب منطلقاتها الفكرية والتطبيقية. وقد أسعفت تلك الأسس في الإجابة عن أسئلة المعرفة المعقّدة في جوانب البحث موضع الإشكال، وحل التشابكات والاختلافات، انتصارا للفكر الحداثي الخلّاق.
مشاركة :