أحدثت جائحة كرونا انقلابًا مدوّيًا في جميع المجتمعات المتقدِّمة منها وغير المتقدِّمة، فقد تساوى الجميع أمام هذا الفيروس الغامض المتناهي الصغر السريع الانتشار، حتى إن الحياة على كوكب الأرض شبه توقفت احترامًا وتقديرًا وخوفًا من السيد كرونا والذي لم يتوان في أي لحظة من اللحظات على إظهار قوته وأن يضرب وبقوة في كافة بقاع الأرض تاركًا بصمة ألم ودمعة حزن على فراق حبيب وغال دون قدرة على وداعه أو حتى إلقاء نظرة الوداع الأخيرة له. لقد كانت جائحة كرونا بمثابة جرس إنذار إلى كافة سكان كوكب الأرض لإعادة النظر في ترتيب الأولويات وإعادة تهيئة المجتمعات وبخاصة المجتمع الأسري الذي وجد نفسه فجأة مطالبًا بالقيام بالكثير من المهام الصحية والتثقيفية والتربوية وغيرها في وقت لم يكن مهيًأ لذلك. لقد كان التعليم واحدًا من القطاعات الأشد تأثرًا بهذه الجائحة، حيث سارعت الكثير من الدول إلى تعليق الدراسة والتوجه نحو التعلّم عن بعد، بل إن كثيرًا منها أنهت العام الدراسي مكتفية بما حصل عليه الطلبة خلال فترة ما قبل تعليق الدراسة ففقد الطلبة بذلك عنصرين من أهم عناصر دورة الحياة: التربية والتعليم. فالتربية هي الوسيلة التي تساعد الإنسان على بقائه واستمراره ببقاء قيمه وعاداته ونظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. التربية في نظر البعض تأخذ منظورًا دينيًا ويعتبرها البعض عملية هدفها هو الحصول على الإنسان السوي المعتدل كما أقرت بذلك كل الديانات السماوية. بينما التعليم كما يعرفه البعض: هو كل عملية تتضمن تعليم الأفراد سواء كان ذلك بطريقة مقصودة أو غير مقصودة؛ حيث إنّه من الممكن أن يكون مخططاً له بشكل مسبق، أو أنّه حدث في التو واللحظة دون تخطيط مسبق؛ كأن يتعلَّم الفرد أمورًا جديدًا من خلال متابعته لفيلم معين على التلفاز. ولقد جاءت قرارات تعليق الدراسة المفاجأة بمثابة صدمة لكثير من الأسر التي كانت تعوّل على المدرسة مهمة تربية وتثقيف وتعليم الأبناء وبدأت هذه الأسر بل والمجتمع كله في إعادة صياغة العلاقة بينها وبين أعضاء الأسرة. فبعد أن كان اللقاء داخل المنزل والتجمع يتم صدفة أو لسبب ما في كثير من الأسر أصبح الوجود وجهًا لوجه ولمدة 24 ساعة يومياً هو الوضع الفعلي للأسرة والتي اكتشفت أن عليها أن تقوم بمهام كثيرة كانت تاركة لها لمؤسسات وأشخاص آخرين، فقد تحول الأب والأم بدورهما الأساسي في الأسرة إلى لعب أدوار أخرى، فهم على سبيل المثال يتتبعون الحالة الصحية بشكل يومي للأبناء، وكذلك ينظمون حياتهم اليومية بحيث يوفرون وقتًا للحوار ووقتًا للنوم ووقتًا للتواصل المجتمعي عبر وسائل التواصل الإلكترونية المختلفة. لقد كانت فترة الحظر الكامل لكثير من المجتمعات فرصة لقيام الأسرة بدور أساسي في إعادة بناء الأبناء بعد فترة من الإهمال المتعمّد وغير المتعمّد، وقد ساعدت قرارات كثير من الحكومات الأسر على القيام بذلك من خلال تنظيم الحياة الاجتماعية خلال فترات الحظر مما أعطى قوة لقرارات الأسرة أيضاً في تنظيم حياة أبنائها. فحظر التجول، والتباعد الاجتماعي، واتباع التعليمات في التواجد خارج المنزل، وإيقاع العقوبات الغليظة على كل من يتجاوز هذه التعليمات؛ أتاح للأسرة المشاركة في تربية الأبناء بشكل فعَّال ومباشر، بل إن كثيرًا من الأسر وجدت تحولاً كبيرًا في سلوكيات الأبناء نتيجة هذه الجائحة ولعل من أهمها البعد عن أصدقاء السوء والتخلّص من عادات الأكل غير الصحي وتضييع الوقت. رغم ما عانته المجتمعات والدول، بل والعالم كله من قسوة فيروس كرونا إلا أن الأسرة في كافة أنحاء العالم تعد واحدة من أكبر المستفيدين منه واستغلال فترات الحظر في إعادة تشكيل مفهوم الأسرة لدى الأبناء، بل ولدى الآباء أيضًا. رب ضارةٍ نافعة.
مشاركة :