الفلسفــة والتفـلســف

  • 7/18/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

شاع في الوطن العربي حديث طويل عن قيمة الفلسفة وما يمكن أن تقدمه للنهضة العربية وللواقع عموما الذي يشكو صعوبات لا تخفى على أحد. وتنوعت الأفكار والتحليلات حول هذه المسألة بل وتناقضت حدّ التضاد بين مؤيّد متغن بالفلسفة ومؤمن بقيمتها ودورها ومناد بضرورة تعميمها وانتشارها وجعلها من أسس التعليم الجديد، ورافض لها يراها معارضة لثقافتنا وواقعنا وقيمنا بل يذهب منهم من يراها أكبر خطر على الدين والسياسة، وبالتالي يرى ضرورة محاربتها وعدم السماح بوجودها فضلا عن تعليمها بين الشباب والناشئة. ولا شك أن هذا التباين في المواقف ناتج عن أمر واقعي وموضوعي ألا وهو وجودها وانتشارها في العديد من بلاد الدنيا بما في ذلك البلاد العربية والإسلامية، وعدم وجودها في بعض البلدان الأخرى. أما الذين يعترفون بالفلسفة وقيمتها فيُرجعون سبب تخلف العرب اليوم وضعفهم إلى غياب الفلسفة عندهم. وأما الذين لا يعترفون بالفلسفة يسألون الآخرين وكأنهم يقولون لهم وماذا فعلت لكم الفلسفة التي تتعلمونها، فلم نر أنها أخرجتكم من التخلف ولا رأينا عندكم نهضة علمية فعلية كما تدّعون. والواقع الذي لا يمكن تجاهله أن الموقفين المتعارضين هذين موقفان واقعيان صحيحان. فلا وجود الفلسفة أفاد من يتعلّمها، ولا غيابها أشعرنا بالفارق النوعي بينهما. ولما نُمعن النظر أكثر فيما يدور بين المثقفين اليوم في المجتمعات التي لم تعرف الفلسفة في نظامها التعليمي أنهم شيّدوا لأنفسهم فضاءات ثقافية لتعلّم الفلسفة وممارستها، وصرنا نسمع اليوم عن حلقات الفلسفة ونواديها التي يجتمع حولها المثقفون، وصارت لدى هذه المجموعات والنوادي من الخبرة الواقعية ما جعلهم عارفين بالمذاهب الفلسفية ومدارسها، ويتحدثون عنها ويحاضرون فيها. بل صرنا نرى تنوّع المطالعات وتعدّد مشاربها بشكل صار فيه الكتاب الفلسفي حاضرا بقوة بين أحباء الكتاب ومُحبي المطالعة. إنها ظواهر ثقافية جديدة محترمة آمنت بقيمة العلوم والفلسفات وتبذل الجهد والوقت لتعريف الشباب بالفلسفة وعلومها وفلاسفتها وقضاياها، وصار المثقفون عندهم يستعمل في خطابه أسماء عديدة وجديدة من أمثال: داريدا وفوكو وليو شتراوس وهيدغر ودولوز وكانط وديكارت وفلسفة العلم والفينومينولوجيا والتـأويلية وغيرها كثير.. إن هذه النوادي والمجموعات بدأت تُحدث الفارق النوعي في الثقافة السائدة والغالبة وتجلب لها من المثقفين والمتعلّمين أنصارا وتابعين يساهمون في تطوير الواقع الثقافي وتنميته. ومع انتشار هذه الظواهر الثقافية الجديدة صار السؤال الذي طرحناه يُوجّه إليهم أيضا، ماذا أضفتم لمّا أدخلتهم هذه الأسماء وهذه المناهج الفكرية وما هو الأثر الذي ننتظره من أعمالكم؟ لا شك أن هذا السؤال لا يطرحه إلا رافض للفلسفة وغير عارف بها أيضا، ومع ذلك يبدو للسؤال وجاهة واقعية أيضا مثل وجاهة من ينتقد وجود الفلسفة في الوطن العربي وأنها لم تغير من الواقع المتخلّف أيّ شيء. زد على ذلك أننا نعيش في جامعاتنا بين فريقين فريق يحذّر الطلبة من تعلّم المناهج الحديثة ويرميها وأصحابها بالضلال المبين، وفريق يشرف على أطروحات في الماجستير والدكتوراه في المناهج الحديثة والتأويلية والنقد الحديث وأثبت فيها الطلبةُ جدارة علمية لا يشكّ فيها أحد. تبدو الصورة التي رسمتُها الآن للواقع العلمي والثقافي فيها بعض القتامة الواقعية رغم أنه فيها أيضا إشراقات عظيمة تحتاج بعض الزمن لتشرق أكثر وتُظهر جدواها الواقعية أكثر وأكثر. ولكني أرى ومن باب الإحساس بالمسؤولية العلمية والأكاديمية أن الأمر لا يمكن أن ينجح ويحقق أهدافه العلمية والثقافية الكبرى إن بقي مواصلا لنفس الخط والوجهة والاتجاه. إن غياب الفيلسوف الأكاديمي في نوادي الفلسفة والجماعات الثقافية ساهم في انتشار الأخطاء العلمية بين المثقفين المحبين للفلسفة بلا وعي منهم؛ بسبب غياب الفضاء العلمي المسؤول عن التعليم، وهي دعوة لجعل مادة الفلسفة مادة علمية يهتم بها مختصون أكاديميون لينشأ جيل من المتعلّمين عارف بها فعلا واع بصعوباتها ومدرك لخصوصياتها التي لا يكشفها المطالعون وأحباء الكتاب الفلسفي مهما اجتهدوا. كما أن غياب التفلسف في بعض الجامعات التي تعترف بالفلسفة وعيّنت لها قسما مستقلا وأكاديميين من أهل الاختصاص لتعليمها ساهم في تعميق استقالة التفكير وترسيخ جميع أشكال التبعية الفكرية. ونعني بغياب التفلسف أن أقسام الفلسفة صارت مكانا لنشر الفكر النقلي الذي نجده في بعض التخصصات الأخرى. فصار المتعلم للفلسفة يتقن الحديث عن الفلاسفة بجميع مذاهبهم ومدارسهم من جهة، وعاجزا عن التفكير والتفلسف الحر من جهة أخرى. وهذا العيب الأكاديمي يعكس واقعا عربيا لم ينجح بعد في تجاوز النقل والتقليد والتبعية. وهنا يستوي من يقلّد أهل التراث والماضي دون فكر نقديّ فطِن ومُتعقل، ومن يقلّد الفكر الفلسفي العربي والغربي أيضا دون منهج نقدي رصين وهادئ. إن تعلّم الفلسفة ليس تعلّما لمدارس الفلسفة ومناهجها فحسب رغم ضرورة هذا التعلم أكاديميا، وإنما هو تعلّم للتفلسف الذي يُكسب المتعلّمين قدرات عقلية ونفسية على أن يفكروا بأنفسهم للتحرر من كلّ فكر نقلي ومن كلَ تبعية عمياء لهذا وذاك. إن تعلّم الفلسفة يريد أن يبني المواطن الموالي لوطنه، والموالي للسان تفكيره العربي لإنشاء شخصيات حرة مستقلة تؤمن بواجب التفكير والتفكّر لتكون قادرة على بناء مناهجها الفكرية ومدارسها الفلسفية، لا ناقلة لها ومحدّثة عنها. وهذا لا يكون إلا بتعلّم الفلسفة وفق منهج أكاديمي مُحكَم الصنع، ورؤية تربوية جديدة في أساليب التعلّم والتعليم والممارسة والتقويم. إننا في انتظار هذا الوعي العميق عند أهل النظر وأصحاب القرار لضمان استقلالية هذه الأمة في فكرها وتعقّلها وممارساتها العلمية والثقافية وإنقاذ الأمة من كل تبعية تحكُم عليها بالتخلّف الأبدي. إن أمّة لا تفكر بلسانها (لساننا العربي بالنسبة إلينا) ولا تستعمل عقلها الخاص، أمة لا يمكن أن تنهض مهما أوتيت من القوى المادية الأخرى؛ لأن نجاعة القوى المادية الأخرى رهين هذا العقل الخاص المستقل المؤمن بذاته المدرك لقيمة العلم الحقيقي والعمل الفعلي الذي يضمن نجاح كلّ حركة أو تغيير. كلّما استقام لساننا استقام عقلنا وتفكيرنا، وكلما استقلّت شخصيتنا استقلت عقولُنا وصارت عقولا مبدعة لا تكتفي بالتقليد، وترفض ذل التبعية، وهذا لا يكون إلا إذا نجحنا في المرور من الفلسفة إلى التفلسف؛ لأن التفلسف وحده هو الضامن للاستقلال وشرط تحقيقه.

مشاركة :