مع بدء عودة العالم تدريجيا إلى الحياة الطبيعية بعد مرور أسوأ فترة لفيروس كورونا في الغرب، حاول الكثير من الأكاديميين ومراكز البحوث تصور الشكل المستقبلي للسياسة الخارجية البريطانية، وهل ستكون هناك إمكانية لإحداث تغيير في كيفية تفاعلها مع العالم، وكيف يمكن استخدام هذه السياسة لتعزيز قيم المجتمع في ضوء أن كارثة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد جذبت غالبية اهتمام الحكومة بعيدا عن الشؤون الخارجية لأكثر من أربع سنوات، واستدعت جائحة فيروس كورونا تركيزا أكبر على الشؤون الداخلية يفوق الاهتمام بالتطورات العالمية.وفي ضوء هذه التطورات عقدت مؤسسة «هنري جاكسون» بلندن ندوة عبر الإنترنت بعنوان «بعد كوفيد-19.. إلى أين تتجه السياسة الخارجية البريطانية؟»؛ بهدف مناقشة المستقبل المحتمل لسياسة بريطانيا الخارجية، والتهديد الأمني الذي تمثله الصين لها، والقرار الأخير الذي اتخذته الحكومة بدمج وزارتي الخارجية والتنمية الدولية، لتصبح باسم وزارة الخارجية والكومنولث (رابطة الشعوب البريطانية) والتنمية. رأسها «جيمس روجرز»، مدير برنامج بريطانيا العالمي بالجمعية، وتحدث فيها ثلاثة أعضاء من البرلمان البريطاني، هم: «توم توغيندات» ممثل لجنة الشؤون الخارجية، و«توبياس إلوود» ممثل لجنة الدفاع في مجلس النواب، و«سارة تشامبيون» ممثلة لجنة التنمية الدولية. في البداية، تحدث «توغيندات» عن الدور الدولي المستقبلي لبريطانيا، وأوضح أمله في «زيادة العلاقات الدولية» بين الدول الديمقراطية ذات التفكير المُماثل، وأن تلعب دورا عالميا رائدا، وتتفاعل مع الحكومات الأخرى لتأكيد دعمها المشترك لما أسماه «شبكة العنكبوت» للاتفاقيات المتعددة الجنسيات بين الدول بشأن الحريات والحقوق والتجارة. ومع ذلك، فقد وافق على أن اتباع هذا النهج الجريء يعني تحمّل بعض «المصالح الخاصة» لقوى عالمية كبرى أخرى مثل، الصين، والولايات المتحدة؛ لكنه اعترف بإمكانية التوجه نحو مزيد من القومية والعزلة بعد الجائحة. وبالنسبة إلى ممثل لجنة «الشؤون الخارجية»، هناك حاجة ماسة إلى الأخذ بنهج واشنطن «المنفصل بشكل متزايد» في ضوء أن هذا ليس مجرد قرار لإدارة ترامب، ولكنه سمة طويلة المدى للسياسة الخارجية الأمريكية، وكان واضحا خلال كل من حكومتي أوباما، وبوش. لذلك، وفي غياب القيادة الأمريكية، أعاد «ممثل لجنة الشؤون الخارجية»، تأكيد الحاجة إلى «استراتيجية الشبكة» في العلاقات بين المملكة المتحدة والدول الديمقراطية الأخرى مثل، اليابان، وكوريا الجنوبية، والهند. في مثل هذا النظام، ستتعاون هذه الدول بشكل أكبر لضمان حرية ومصالح بعضها بعضا ومواجهة منافسيهم.من جانبه، ناقش «إلوود» المخاوف الأمنية الحالية للمملكة المتحدة. ومن بين القضايا الأكثر إلحاحا بالنسبة إلى الأمن البريطاني «ازدياد طموح وعدوانية الصين»، التي أصبحت «أكثر قوة»، حيث لاحظ أن السماح لها بدخول منظمات عالمية مثل، «منظمات التجارة العالمية»، على أمل مساعدة تحولها لتكون دولة أكثر ديمقراطية وليبرالية قد فشل. وفي المقابل تمكنت من استخدام هذه المؤسسات لتعزيز استراتيجيتها الكبرى وتقويض الديمقراطيات الليبرالية، مشيرا إلى أن الوضع العالمي الحالي يشبه بشكل مثير للقلق ثلاثينيات القرن العشرين، من حيث «البنية الدولية العالمية غير القادرة على الفصل في النزاعات» في القضايا الجيوسياسية الرئيسية، لذلك رأى أن هذه «المعادلة المتقلبة» تخاطر بانزلاق العالم مرة أخرى إلى «نظام عالمي ثنائي القطبية»، حيث تهدد الصين بشكل مباشر مكانة الولايات المتحدة العالمية مثلما فعل الاتحاد السوفييتي من قبل.ومن وجهة نظره، فإن اللوم على هذه المشاكل العالمية لا يكمن فقط في الصين، ولكن أيضًا في تراجع «الدول الغربية الديمقراطية تاركة الأنظمة الاستبدادية المناهضة للغرب تملأ الفراغات في السلطة»، مستشهدا بسوريا، حيث أثبتت روسيا نفسها كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط بعد أن سحبت الولايات المتحدة جزءًا كبيرًا من قوتها ونفوذها من المنطقة. وفي ضوء هذه القضايا، اتفق «توغيندات»، مع «إلوود» على أن اتباع المملكة المتحدة نهج «الانعزال» سيكون خطأ، وأن هناك فرصة حقيقية «لتتبوأ المشهد» دوليًا. لكنّ الأخير أعرب عن قلقه من أن النهج الذي تتبعه في ظل وجود «بوريس جونسون»، يبدو أنه يتبع المثال الأمريكي بدلا من ذلك. ومع ذلك، لاحظ أنه إذا أرادت أن تؤكد نفسها أكثر، فستتطلع العديد من الدول إليها وتقتدي بها.وفيما يتعلق بالمكاسب الدبلوماسية لبريطانيا من تنفيذ عملياتها الإنسانية والمساعدات؛ أوضحت «تشامبيون» أن هذا يعد جزءًا مهمًا في سياستها الخارجية، باعتباره «قوة ناعمة» ويمكن أن تكون أيضًا أداة دبلوماسية مهمة إذا اختارت القيام بدور رائد في الشؤون الدولية، مستشهدة بتقديم المساعدات للتطعيم ضد الأمراض لأكثر من 50 مليون طفل بين عامي 2015 و2017، ما أدى إلى إنقاذ ما يصل إلى 990.000 شخص، حيث لديها واحدة من أكبر ميزانيات المساعدة في العالم، ولديها 15 مليار جنيه إسترليني سنويًا لـ«المساعدات الإنمائية الرسمية». ومن هذا الرقم، تم التعهد بنسبة 73% لوزارة التنمية الدولية. ومع ذلك، تم إنفاق 100 مليون جنيه إسترليني أخرى من قبل العديد من الوكالات البريطانية. لكنها انتقدت كيفية تخصيص بعض هذه الأموال، حيث تدفع «وزارة الخارجية والكومنولث»، حاليًا للصين500.000 جنيه إسترليني سنويًا لتعزيز الديمقراطية، وهو أمر أبدت إحباطها منه بوضوح.من ناحية أخرى، أوضحت أن الفيروس التاجي بدأ الآن في «السيطرة» على العالم النامي»، ما جعل هناك «نظرة قاتمة»، وباتت الحاجة إلى المساعدة الإنسانية ضرورة ملحة. وأكدت أن الجائحة تهدد بإلغاء 20 أو 30 سنة من الاستثمار البريطاني في العالم النامي، وأن الجماعات المتطرفة باتت تستغل بالفعل هذه التداعيات، وأن على المملكة المتحدة القيام بأكثر من المعتاد لمكافحة هذا التهديد الأمني المستقبلي. وبصفتها رئيسة «لجنة التنمية الدولية» رأت أن التحرك المحلي لدمج وزارتي «التنمية الدولية»، و«الخارجية والكومنولث»؛ لتشكيل كيان واحد يهدد فعالية المشروع الإنساني البريطاني، مثلما تسببه القرارات غير المدروسة للحكومات التي تبدو وكأنها تقدم مُثلًا مختلفة لبريطانيا، حيث يتم تنفيذ القرار من دون وضع «استراتيجية شاملة» في الاعتبار. وفي وقت الأزمات الإنسانية الكبرى، فإن مثل هذا التغيير هو استهلاك غير ضروري للوقت والموارد التي يمكن استخدامها بشكل أفضل في مكان آخر. وردا على سؤال «روجرز» عن جدوى مجموعة الديمقراطيات الرائدة «العشر»، والتي تعمل على غرار مجموعة الدول الصناعية السبع أو مجموعة العشرين؛ أعرب «توغيندات» عن دعمه لمثل هذا الإجراء؛ بدعوى أن بريطانيا لا تزال قوة عظمى في الدبلوماسية، وبالتالي فهي تتحمل مسؤولية استخدام هذا الوضع من أجل الرخاء. وفي ظل المناخ العالمي الحالي، هناك «فرصة حقيقية» لها للاضطلاع بدور قيادي عالمي بالنظر إلى «انسحاب» واشنطن والحاجة إلى مواجهة «المحاولات المتعمدة» من قبل الصين لتقويض الديمقراطيات الليبرالية.وحول مدى حاجة المملكة المتحدة لإعادة الاستثمار في قدراتها الدفاعية لمواجهة التفوق العسكري الصيني، بدا «إلوود»، مُصرا على أن لندن بحاجة إلى مواصلة الاستثمار في «قوتها الصلبة». وزعم أن نسبة الـ2% المخصصة من الناتج المحلي الإجمالي والتي تنفقها حاليًا على «قطاع الدفاع»، معرضة للتهديد نظرًا للمشكلات الاقتصادية التي تمر بها البلاد. مضيفا أنه على الرغم من أنها تمتلك معدات عسكرية عالية التقنية، فإنها لا تمتلك نفس الحجم العسكري كما كانت في السابق، مستشهدا بحالة البحرية الصينية، التي تتوسع بحجم البحرية البريطانية كل عام. ومع ذلك، مازالت في مخيلة الجيش البريطاني أسطورة إمبراطوريته بأنه بإمكانه «أن يقاتل ما يفوقه قوة وعدة». وردا على سؤال، بشأن قيام بعض الدول بـ«تسليح» مساعداتها؛ بمعنى أنها تقدمها لدول نامية أمام قيام الأخيرة بشراء أسلحتها، وكيف يمكن لبريطانيا مواجهة ذلك؛ أوضحت «تشامبيون» أن النموذج الصيني لعرض «المساعدات» يعتمد في المقام الأول على ترك «بصمة» أو موطئ قدم «صينية» في العديد من البلدان النامية. وبينما تظهر تلك المساعدات في شكل مشاريع بنية تحتية جديدة، فإنها وفقا لها ترتقي إلى «شراء قطعة من هذا البلد الذي تقدم له المساعدة»، وخاصة في ضوء أن الغرب «جلس» وترك ذلك يحدث.وكان من ضمن الأسئلة ما يتعلق بالموقف تجاه التوسع في قدرات الناتو وأعضائه في ظل قبول انضمام عدد من الدول الآسيوية بما تتمتع به من إمكانات. ووافق «توغيندات» على الحاجة إلى وجود تعاون أوثق مع حلفاء بريطانيا البارزين مثل اليابان وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى دول محايدة مثل الهند. ومع ذلك، ظهر هذا التعاون بين أعضاء الناتو فيما يتعلق بمشكلة تايوان، ولا سيما أن هذه المشكلة قادرة على خلق مواجهة مباشرة مع الصين. وأضاف «إلوود»، أنه يؤمن بأن يظل الناتو «مشروعًا أوروبيًا»، بالنظر إلى التهديد المستمر من روسيا، مسلطا الضوء على قرار «ترامب» بسحب القوات من أوروبا، معتبرًا إياها علامة مقلقة على انخفاض الالتزامات الأمريكية تجاه الحلف؛ وبالتالي يحتاج الأخير إلى تجنب حالة التشتت التي تعتري أعضاءه البارزين. كما رأت «تشامبيون» أن دولًا مثل سنغافورة حريصة جدًا على تكوين «شراكات جيوسياسية»، أوثق، وبالتالي لم تعارض توسع الحلف في نطاق قدراته وأعضائه.وكان هناك سؤال آخر حول نقاط القوة التي تتمتع بها بريطانيا، مقارنة بالتفوق العسكري للولايات المتحدة، والقوة الاقتصادية للصين. ورد «توغيندات»، بأن القوة الحقيقية لها تكمن في نفوذها الدبلوماسي وقوتها الناعمة، ومكانتها المرموقة في المنظمات الدولية مثل، الناتو والأمم المتحدة، موضحا أن القانون الدولي أسهم في تعزيز هذا الدور، ولا سيما مع تدرب العديد من القضاة البارزين عالميًا تحت أروقة محاكمها العريقة وتعلمهم كل الأساليب ومناحي الحياة البريطانية، مؤكدا أن «العماد» الذي قام عليه النظام السياسي الدولي أسهمت لندن بشكل كبير في رسم ملامحه وبنائه. فيما أضافت «تشامبيون» أن قوتها الدولية، تكمن في جهود «مساعداتها الإنسانية»، و«نظامها البرلماني»، مشيرة إلى نفوذها داخل دول الكومنولث بالمقارنة مع نظرائها من الدول الأخرى. في حين أشار «إلوود» إلى أنها لا تزال لديها قدرة دفاعية، ولا تزال تمتلك تفكيرًا استراتيجيًا متفوقًا، مستشهدًا بأن الولايات المتحدة «تحب وجود بريطانيا على الطاولة» بسبب خبرتها في التعامل مع العديد من حالات الطوارئ والحرب.ودار السؤال الأخير حول ما إذا كانت السياسة الخارجية لبريطانيا يمكن أن تظل تتسم بالفاعلية مع وجودها خارج الاتحاد الأوروبي. ورد «توغيندات»، أن الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة يحافظان على وجود علاقة تتصف بالأهمية. وبإمكان الأخيرة الحفاظ على نفوذ سياستها الخارجية مع بقائها خارج المنظمة، وذلك بالنظر إلى الوضع الدائم لها في مجلس الأمن وعلاقاتها الدبلوماسية القوية مع العديد من البلدان. علاوة على أن هناك إمكانات هائلة لتحسين علاقات العمل للمملكة مع الدول الناشئة مثل الهند ونيجيريا. بشكل عام، قدمت الندوة عرضًا شاملا للشواغل المستقبلية التي تواجهها بريطانيا في الشؤون الدولية في عالم ما بعد كورونا، من خلال مناقشتها مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك التهديد الذي تمثله الصين، والمسار المستقبلي لسياستها الخارجية، وسبل تقديم المساعدات الإنسانية، وكانت توقعات المشاركين مختلطة، فمنهم من أدرك أن لدى بريطانيا الفرصة لممارسة جهود إيجابية في نطاق الشؤون الدولية، ومنهم من كانت توقعاتهم واقعية بأنها يبدو أنها ستعطي أولوية كبرى للاهتمام بالشؤون الداخلية. وفي ظل غياب الولايات المتحدة عن موقع قيادة العالم، وعدم رغبة المملكة المتحدة في سد الفجوة التي خلفتها، فإن احتمال زيادة الهيمنة الصينية وتراجع قوة الدول الغربية يبدو احتمالا مرجحًا.
مشاركة :