تناولت العشاء في أحد المطاعم العربية الصغيرة في دبي، وعندما حان وقت دفع الحساب قال لي الجرسون “خليه علينا!”، هو على دراية بأنني سأرفض، وهذا ما دفعه للتفوّه بمثل هذه العبارات التي لا قيمة لها سوى المبالغة في المجاملة. وكرر الجرسون العبارة ذاتها في زيارة ثانية لي، وكررت أنا رفضي. وفي زيارة ثالثة لي بصحبة صديقين للمطعم نفسه، تكررت العبارة المعتادة “خليه علينا”، فأجبت “ممتاز خليه عليك، سوف أحرص على القدوم دائما إلى هنا طالما طعامكم تقدمونه بالمجان”. فجحظت عينا النادل وفتح فاه ونحن نهمّ بالخروج من المطعم من دون دفع الحساب، فلحقني يرجوني دفع الحساب وإلّا سيُخصم من راتبه، معلّلا بأن ما قاله من باب المجاملة، فقلت له بعد أن دفعت الحساب “لا تقل كلاما يفوق قدراتك ففتح الفم أكثر من اللازم تكون نتائجه عكسية”. في موقف آخر جلس أمامي موظف محترف في عمله البحثي، وأعربت عن عدم رضاي عن بحثه الأخير بسبب عدم تقيّده بالتعليمات كافة، وهذا ما أثار غضبه وقال “أنا مستعدّ لتقديم استقالتي إذا كنت تشكّك في كفاءتي”، ورغم محاولتي تهدئته إلّا أنه كرّر الجملة ذاتها للمرة الثانية! فهو على علم مسبق بأنه لا يوجد بديل له، فيصاب بنشوة النجاح في العمل ويدفعه نحو الغرور، اعتقادا منه أنه من المستحيل التخلي عنه، وهذا غير صحيح. فصديقنا هذا وبمجرد أن كرّر ذات العبارة للمرة الثالثة قلت له “استقالتك مقبولة، بإمكانك مغادرة العمل منذ هذه اللحظة”. فكانت ردة فعله جحوظُ عينيه وفتحُ فيه، غير مدرك ضياع هيبته بسبب حماقة أقواله. أثناء حكم القيصر الروسي نيكولاس الأول عام 1825 اندلعت مظاهرات ضده من قبل الليبراليين المطالبين بتحديث روسيا على غرار دول أوروبا، ولكن القيصر قابل تلك المظاهرات بعنف وأُلقي القبض على قائد المظاهرات ويُدعى كوندراتي ريلييف وحُكم عليه بالإعدام، وأثناء تنفيذ الحكم وبعد فتح خشبة المشنقة انقطع الحبل ونجا من الموت فقال “أرأيتم أن روسيا لا تقدر أن تصنع شيئا حتى الحبال!”، في حوادث مثل هذه من نجاة المحكوم بالإعدام، فإنه لا يُعاد تنفيذه بسبب تدخل العناية الإلهية، لكن قبل أن يوقع القيصر على قرار العفو عَلِم بما قاله كوندراتي فمزق القرار وقال “سنثبت له عكس ما قال”، وتمّ بالفعل تنفيذ الإعدام في اليوم التالي. خلاصة القول إن الكلمة التي تخرج من الفم لا يمكن إعادتها، فالثمن قد يكون كبيرا جدا. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :