حكاية أغنية اليوم عن واحدة تحولت إلى رمز، كل من يستمع إليها يعرف أنها من رائحة وتراب هذا البلد، وهي "ساكن في حي السيدة" للمطرب الكبير محمد عبد المطلب.بدأت الحكاية عندما تولى الأديب الكبير يحيى حقي، إدارة الأوبرا المصرية، وأقام لأول مرة عروضًا لمختلف الفنون الشعبية، ومنها فرقة رضا الاستعراضية، وفرقة المطرب الشعبي "أبوذراع" وخصصت حفلة للمطرب الشهير محمد عبدالمطلب.وقتها كان يسكن في حي السيدة زينب الشعبي في القاهرة، وذهب مع فرقته إلى موقع الحفل في حي العتبة بوسط القاهرة.كانت المرة الأولى التي يغني فيها مطرب شعبي في الأوبرا، وفوجئ عبدالمطلب بجمهور مختلف يرتدي الملابس الرسمية، وأغلبهم من الطبقة الراقية، ورغم حرارة التصفيق، أصابه الذهول للحظات.وبدأت الفرقة في عزف مقدمة أول أغنية، لكن صوته تحشرج، وتغلب عليه الارتباك، وسرت الهمهمات في القاعة، ولم يستطع الغناء، واضطرت إدارة الحفل إلى إغلاق الستار.كاد عبدالمطلب يغشى عليه، وزملاؤه يحيطون به، وهو يحاول أن يتكلم دون فائدة، وخرجوا معه إلى أقرب طبيب، وطمأنه الأخير أنها صدمة مؤقتة، ونصحه بالامتناع عن الغناء حتى يتماثل للشفاء، وطالت فترة العلاج، ولا يكف عن القلق.تناقلت المجلات الفنية خبر اعتزال المطرب الشعبي وحادثة الأوبرا، وكيف يعيش في مسكنه بالحي الشعبي، ويتوافد أصدقاؤه وجمهوره للاطمئنان عليه.لم يجد عبدالمطلب مخرجًا من هذه المحنة، سوى الذهاب يوميًا لصلاة الفجر والعشاء في مسجد الحسين، وظل يقطع المسافة كل يوم من بيته إلى المسجد، ويدعو الله أن يمن عليه بالشفاء، وذات يوم حدثت المعجزة، واسترد صوته، وتساقطت الدموع من عينيه، وغمره الفرح بقدرته على الكلام مُجددًا.بدأ عبدالمطلب في التحضير لجولة فنية جديدة، ومواصلة الغناء في الإذاعة والحفلات العامة، وفي عام 1960 طلب من الشاعر زين العابدين فتح الله أن يكتب له أغنية عن حبيب يسكن في حي السيدة، ويذهب مرتين ليلتقي حبيبه في حي الحسين، وصاغ الشاعر كلمات الأغنية، وقال في مطلعها:ساكن في حي السيدةوحبيبي ساكن في الحسينوعشان أنول كل الرضايوماتي أروح له مرتينمن السيدة لسيدنا الحسينواستمع عبدالمطلب إلى الأغنية، واستشعر ميلاد أغنية متفردة، وأعجب بقدرة الشاعر على صياغتها في فضاء شعبي، وتصويره لمعاناة حبيب يسكن في حي السيدة، ويقطع المسافة الطويلة مرتين، لرؤية حبيبته التي تقطن في حي الحسين، وأنها تلامس الوجدان الشعبي. واتفقا على زيارة الموسيقار محمد فوزي، وإقناعه بتلحينها، وتحمس الأخير للأغنية، وطلب منهما أن يمهلاه عدة أيام، حتى يستقر على اللحن المناسب.كادت الأغنية تضيع من عبدالمطلب، عندما أعجب بكلماتها المطرب محمد فوزي، وقام بتلحينها لنفسه، وقرر أن يستأذن من "طلب" في غنائها، وأسمعها لأفراد أسرته، لكنهم نصحوه بعدم غنائها، لأنها بعيدة عن شخصيته الفنية، وعليه أن يبحث عن مطرب شعبي ليغنيها.أدرك فوزي أن "ساكن في حي السيدة" لا تليق سوى بصاحب فكرتها، واتصل بعبد المطلب ليتفق معه على موعد البروفات.حققت الأغنية شهرة واسعة، وظل الجمهور يطلب من عبدالمطلب غناءها، وفي إحدى الحفلات، شارك ملك المواويل مع العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، وكانت تجمعهما صداقة قوية، وغنى "ساكن في حي السيدة". بعد انتهاء الحفل مازحه حليم قائلًا: "إزاي تروح لحبيبك مرتين في اليوم، وأنت ساكن في حي السيدة وحبيبك في الحسين... مشوار كبير عليك يا طلب.. كفاية مرة واحدة"، وتعالت ضحكاتهما.
مشاركة :