يستعيد الناس تدريجياً الحياة الطبيعية في العديد من الدول، بعد أشهر طويلة من التباعد الاجتماعي، والعزلة الإجبارية، ومحاولة الابتعاد عن الآخرين، والنظر إليهم كمصدر محتمل لخطر الإصابة بفيروس كورونا. فهل سيكون سهلاً عليهم الاندماج في المحيط الاجتماعي الخاص بهم من جديد، والعودة للتواصل مع الأصدقاء والزملاء؟ أم ستظهر عليهم ما يعرف ب«متلازمة الكوخ»؟ التي تعتبر من الاضطرابات النفسية والاجتماعية المرصودة في بلدان كثيرة، وتصيب البشر عندما يتوقفون فترة طويلة عن التواصل مع الآخرين، فتظهر عليهم أعراض مثل الخوف من الآخر، وسرعة الانفعال والتوتر والقلق، وكثرة تناول الطعام، واضطرابات النوم. وقد أكدت الدراسات أن البشر على مر العصور نجحوا في تطوير ما يسمى «جهاز المناعة السلوكي» لحماية أنفسهم من الأخطار لتكون خط دفاع أول، لتقليل الاحتكاك مع مصادر العدوى، أو التهديد المحتمل، ما يجعل البعض أكثر حدة، وقسوة في التعامل مع من حولهم.وفي هذا التحقيق سنحاول رصد تجارب بعض الأشخاص الذين تعرضوا لتجارب اجتماعية سلبية، ونصائح علم الاجتماع المتخصصة للتغلب على هذه الأعراض السلبية، واستعادة نمط الحياة الطبيعي. تقول بدرية محمد، مصممة ملابس: «رصدت تأثيراً كبيراً في علاقات الجيران، فأصبحت لا أرى جاراتي مثل السابق، وإذا التقيت إحداهن بالصدفة أثناء التسوق مثلاً، نقوم بتحية بعضنا بعضاً من بعيد، من دون أن نتلاقى، أو نتجاذب أطراف الحديث، ولم نعد نتناول كوب القهوة الصباحي في بيت إحدانا، كما جرت العادة، وأصبحنا نمنع أطفالنا من اللعب سوياً، حرصاً على سلامتهم. لذلك أشعر بأن كل الإجراءات الصارمة التي فرضناها على أنفسنا خلال الفترة الماضية خوفاً من العدوى كان لها بالغ الأثر في سلوكاتنا، وقدرتنا على التعامل بحميمية مع من حولنا مثلما كنا قبل كورونا». أما سلمى العلي، ربة بيت، فتروي تجربتها، وتقول: «أصبحت أتحاشى التعامل مع الناس في حياتي اليومية، وأشعر بالانزعاج الشديد والتوتر إذا اقترب مني أي شخص، النادل في المطعم، أحد المتسوقين، المشاة العاديون. وأصاب بالهلع لو اقترب أحد من أولادي من دون قصد، ورغم حتمية وأهمية هذه الإجراءات لمكافحة الفيروس إلا أننا يجب أن نتقبل ضريبة الالتزام بهذه الإجراءات، وأعراضها الجانبية، وهي ما أصبحت اشعر بها عند الوجود في مواقف تفرض علي التواصل مع الآخرين. فإذا كانت فترة المكوث في البيت قد وطدت من العلاقات الأسرية فإنها باعدت بين الأصدقاء، والجيران، والمعارف لدرجة كبيرة، بل وحتى أقاربنا الكبار في السن الذين اعتدنا أن نزورهم، ونودهم، من حين لآخر، أصبحنا غير قادرين على التواصل معهم خوفاً عليهم من العدوى باعتبارهم من الفئات الأكثر تعرضاً للمخاطر.نقاشات «التواصل»أما ناصر خليفة، موظف بدبي، فيؤكد ظهور سلوكات سلبية بين الأصدقاء على «فيسبوك»، ويقول: «رغم أن مواقع التواصل الاجتماعي تعتبر نافذة على العالم الخارجي خلال فترة «التباعد الاجتماعي»، وكانت وسيلتنا لمتابعة أخبار الأصدقاء والأهل عن بعد، إلا أنه للأسف الشديد لاحظت مؤخراً أنها قد تحولت إلى مصدر إزعاج، حيث تتسم النقاشات على «فيسبوك» بين الأصدقاء بالحدة، والعدائية، وربما تصل للتنمر في بعض الأحيان، وهذا يحدث في مناقشات عادية لا تحتمل هذه العصبية. وكثير من الأصدقاء يتخذون قرار «البلوك»، أو الحظر لبعض أصدقائهم لمجرد اختلاف بسيط في الرأي حول قضايا هامشية، لا تستدعي القطيعة بين الأصدقاء.أما رانية الشريف، ربة بيت وأم لثلاث فتيات، فتقول: «أعتقد أن الدنيا بخير، والعلاقات الإنسانية بين الناس لا تزال بخير أيضاً، فالاضطرابات التي قد تحدث في العلاقات بسبب ضغوط المرحلة أمر عارض ومؤقت سينتهي بانتهاء «كورونا»، وفي رأيي ما يحدث هو ظاهرة طبيعية ومتوقعة. وما لاحظته على بعض الشباب في سن ابنتي الكبرى (16 سنة) اصبحوا لا يلحون في الخروج من المنزل، وربما لا يرغبون في ذلك.مواجهة الأزماتيقول د. أشرف محمد العزب أستاذ علم الاجتماع: «المرونة النفسية أحد المفاهيم الشهيرة في ميدان علم النفس، ومهارة أساسية تحتاج إلى شحذ من البشرية، لمواجهة ومقاومة الأزمات، خاصة وقت انتشار الجوائح مثل فيروس كورونا المستجد، فالمرونة هي القدرة على تغيير السلوكات والإجراءات عند ظهور أحداث جديدة، أو غير متوقعة، والتي تتيح لنا التكيف بسهولة أكبر مع المواقف الصعبة والضارة من دون الحاجة إلى فترات مطولة من الزمن. إذاً، البشر من خلال ما يتمتعون به من مرونة نفسية لديهم القدرة على التغلب على آثار هذه الجائحة، والعودة إلى حياتهم الطبيعية، مهما كان تصور ذلك صعباً. وعلى أولئك الذين يتنمرون ممن ابتلاهم الله بهذا المرض، أن يعودوا إلى رشدهم، وليعي الجميع أنه بسبب مشاعر التوتر والقلق التي سيطرت على البشرية كلها جراء هذه الجائحة، فقد أصبحت الأفعال الاجتماعية وردود الأفعال غير محكومة بالمنطق السائد قبل انتشارها، الأمر الذي سيعقبه توافر مساحة من التسامح بين جميع أطراف العلاقة بعد انتهاء الجائحة. وليس أدل على ذلك من توافر روح الألفة، والمحبة، والتضامن الاجتماعي الذي أظهرته نماذج مستنيرة من البشر تجاه من أصابهم المرض، والذين فقدوا وظائفهم خلال ذروة انتشار المرض، وأولئك الذين تأثرت حياتهم بالعزلة ككبار السن.
مشاركة :