راج بسرعة، ثم خبا بسرعة أكبر، ذلك الزعم بأن «سيلفي» إدمان كتعاطي الكوكايين والمورفين. راج بسرعة؟ أشياء كثيرة تروج على الانترنت، لكل أنواع الأسباب. إذا لم تكن الشبكة التي يتخاطب عبرها الناس كأنهم في سوق روماني على امتداد الكرة الأرضيّة، هي المساحة الأفضل لرواج الجيد والسيئ والصالح والطالح، فأي مساحة يمكن أن تكون لرواج شيء كالزعم كذباً بأن «سيلفي» هي إدمان موثّق علميّاً؟ أي مساحة سوى الانترنت للرواج الفوّار الذي لا طائل تحته كزبد الموج، وكذلك لرواج ما يفيد الناس ويبقى كالملح في التراب؟ نعم. راج بسرعة ثم خبا بسرعة ذلك المقال المزيّف الذي زعم كذباً أن «جمعية الأطباء النفسيين الأميركيّين» صنّفت صور الـ «سيلفي» إدماناً، على غرار تعاطي الكوكايين والـ «آل إس دي» والمورفين وغيرها. بقي بعد زوال الفورة، أسئلة كثيرة. لماذا حدثت تلك الفورة أصلاً؟ سؤال يحتاج نقاشاً واسعاً، بل ربما أكثر. الأرجح أنّ الرواج المذهل لصور الـ «سيلفي»، بل تحوّلها ظاهرة كبرى في الثقافة البصريّة المعاصرة، أدّى دوراً في رواج القول أن هناك إدماناً معاصراً قوامه أن نرفع الخليوي أمام وجوهنا بيد ممدودة، أو ربما بعصا الـ «سيلفي» التي أثارت حباً وكرهاً كبيرين، ثم نلتقط صوراً لأنفسنا وما يجاورنا، ثم نمطر الصور على صفحاتنا في الشبكات الاجتماعيّة للانترنت، ومنها إلى الأصدقاء ثم أصدقاء الأصدقاء و... المخازن الرقميّة لشـــركات المعــلوماتــية وحواسيب أجهزة الاستخبارات أيضاً. ... لم يردع أحداً لم ينفع شيء في وقف ظاهرة «سيلفي». كل الكلام عن أن تلك الصور تزيد انكشافنا في العوالم الرقميّة، بعد أن صار ممكناً العثور على وجهونا في أي صورة، حتى تلك التي تلتقط صدفة أو في أمكنة عامة، ثم الإشارة إليها باسم صاحبها. لم تنفع صرخات التحذير من أن أجهزة الاستخبارات لا تكف عن تتبع الوجوه في كل زوايا الأرض وكل سيول الصور المتدفّقة على الشبكات الاجتماعية. كما لم ينفع القول أن صور الـ «سيلفي» لا تزول، وأن صورة مع شخص عابر، ربما تحوّلت مشكلة في الغد أو بعده، أو ربما عند التوظيف أو... الوقوع في حب جديد أو حتى مشروع زواج. لا شيء نفع، ولا شيء أوقف تلك الحركة التي صارت شبه ميكانيكيّة: يد ممدودة أمام الوجه ومرفوعة إلى الأعلى، لتحمل الخليوي فوقنا كأنه عين جبّارة لا تكف عن التهام لحظات حياتنا بالصور الموثّقة، وهو عين متسلّطة بأبعد مما تخيّل الروائي الأميركي جورج أورويل في روايته الذائعة «1984». ربما لذلك كله، ربما لأشياء أخرى (من يدري؟)، صدّق الجمع بسرعة مقالاً مزخرفاً ومصوغاً على هيئة خبر علمي عن إدمان الـ «سيلفي». ولعلها التماعة ذكاء واضحة أن موقع psychcentral.com لاحظ أن إحساساً عاماً بتسلّط عادة التقاط الـ «سيلفي» ربما مهّد الطريق أمام التصديق الواسع للمقال الزائف عن إدمان الـ «سيلفي». إذا ذهبنا إلى تفكير مُماثل، ربما أمكن القول أن صورة الانترنت في مخيلات الجمهور الواسع (بتعبير مقتبس من المفكر اليوناني كورنيليوس كاستورياديس، ربما نقول «بنية الخيال»)، يخالطها الكثير من الإدمان. في المقابل، ليس زائفاً القول أن هناك مرضاً نفسياً صار مقرّاً ضمن التصنيف العالمي للأمراض النفسيّة (بمرجعيه العالميّين الـ «دي إس إم» DSM و «أي سي دي» ICD)، هو إدمان الانترنت Internet Addiction. ولهواة المعلومات الموثّقة، من المستطاع الرجوع إلى الصلة التالية عن إدمان الإنترنت كمرض نفسي، وهي متفرّعة من موقع «معاهد الصحة الأميركيّة» التي تعتبر المرجع الأول لبحوث الصحة والبيولوجيا في الولايات المتحدة: ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3480687 التطرّف نرجسيّة ماذا لو فكّرنا في جانب آخر من الـ «سيلفي»، كالنرجسيّة مثلاً؟ ألم يأتِ تعبير «نرجسي» من صورة، بل صورة وجه الشخص نفسه تحديداً؟ نسجت أسطورة «نرسيسس» عند اليونان بأنه كان فائق الجمال، ولما استدرجه «نمسيس» إلى أن يرى صورته منعكسة فوق ماء بركة ساكنة، خلبته شدة جمال وجهه. وخلّد رسام عصر الـ «باروك» الشهير كارفاجيو تلك الواقعة، بصورة «نرسيس» راكعاً متجمّداً ليحدّق باستدامة في صورة وجهه على الماء، حتى... مات! كم مرّة رفّت جفون نرسيس في ذلك الانخبال بصورة وجهه، وفي كل رفّة هناك صورة لذاته، هي «سيلفي» الزمن الراهن؟ ألم يكن نرسيس ضحية إدمان فائق السطوة، إلى حدّ أنه قضى عليه، تماماً كما يحدث لمن يغرق إلى حد الشطط، في إدمان الكوكايين والمورفين والكحول وغيرها؟ هل كان نرسيس أسطورة أولى عن إدمان الـ «سيلفي»، لكنه إدمان «أسطوري» أيضاً بمعنى أنه ليس حقيقياً، بل نسج الخيال وبُناه (مجدداً، باقتباس كاستورياديس)؟ في موقع «جمعية الأطباء النفسيين الأميركيّين»، يمكن العثور بسهولة على ما يفيد بأن النرجسيّة تكون مرضاً، لكنها مرض في الشخصيّة. هناك تصنيف للشخصية المأخوذة بصورتها عن ذاتها (لنقل مجازاً: مأخوذة بصورة وجهها، باعتبار الوجه هو أيضاً الشخص)، هي «الشخصيّة النرجسيّة». في السياسة، هناك نرجسيّات مرضيّة كثيرة، ربما أقربها حضوراً هو... «داعش». أي نرجسيّة أكبر من تلك التي تتصل بالدين، بل بالله مباشرة؟ ألا يعلي أفراد «داعش» أنفسهم عبر الإصرار على أن أفعالهم تتصل مباشرة بزمن النبوة والوحي، ما يجعلهم مستخفين إلى حدّ الاحتقار بإيمان مسلمين آخرين، إضافة إلى تعاليهم المتطرّف على الأديان الأخرى؟ مبالغة؟ حسناً، لنرجع إلى كتب سيد قطب - وهو من مصادر فكر «داعش» وربما يكون معتدلاً قياساً لنظرتها المتطرفة - كـ «هذا الدين» و «المستقبل لهذا الدين» و «العدالة الاجتماعيّة في الإسلام»، لقراءة نصوص تبرّر التعالي على إيمان الآخرين من المسلمين، عدا عن أتباع الديانات الأخرى. أي نرجسيّة تكون عند من يسير على الأرض، وهو يرى أن حزامه الناسف أو سكينه، مدخل إلى الجنّة؟ كيف من المستطاع، من دون نرجسيّة شائهة ومتضخمة تصل إلى الـ «ميغالومانيا» Megalomania، الولوع في استباحة منفلتة للأجساد والأرواح؟ وتفتح نرجسيّة «داعش»، الباب أمام تذكّر نرجسيّات لا تزال ماثلة، كنرجسيّة «تفوق العرق الآري» التي مهّدت للـ «هولوكوست» ومعسكرات الإبادة في «أوشفيتز» و «داخاو» وغيرهما؟ هناك نرجسيّات كثيرة معاصرة، كـ «حليقي الرؤوس» النازية، و «بيغيدا» التي أعادت نرجسيّة متضخّمة عن الأوروبي الأبيض. مع «بيغيدا» من المستطاع رؤية «يد» العنصريّة مفرودة أمام وجه متطرفي أوروبا، كي تلتقط «سيلفي» تشبه صور النازيين في كتب التاريخ والأفلام الوثائقية؛ و «خلفي» تلك الصورة هي مراكب موت المهاجرين الهاربين من نرجسيّات شتى (كداعش ودواعش لا حصر لها، وفشل الدولة وانهيار الحداثة في العالم الثالث...). ولعلها «سيلفي» تستدعي نقاشات أوسع من مجرد إدمان زائف.
مشاركة :