تبقى الموارد المالية المحرك الأساسي للفعل الثقافي لما يحمله من روح إبداعية ونهوضا بالبلاد، لكن سياسة الريع الحكومي في الجزائر وما يحيط بها من ممارسات محاباة، عطلت طاقات كامنة وحالت دون تفجيرها لذنب وحيد هو أنها بعيدة عن مصدر القرار المالي، الأمر الذي دفع إلى ميلاد مبادرة تمويل مثيرة لمشروع ثقافي في الجزائر، لا تزال تثير الكثير من اللغط والجدل. الجزائر – أطلق الكاتب والإعلامي والناشط الثقافي الجزائري عبدالرزاق بوكبة، مشروعا مثيرا لتمويل مشروعه الثقافي، يتمثل في نصب طاولة خضار تعود عائداتها لتغطية نفقات مشروعه. وحملت الفكرة المثيرة للجدل، رسائل مشفرة للفاعلين في الشأن الإبداعي والثقافي بالبلاد، فهي على وضعها للبنة أولى في مسار بعث اقتصاد ثقافي، ينهي تبعية الفعل المذكور لصاحب المال أو توظيفه لأغراض أخرى، وحضها للناشطين على الاجتهاد لإيجاد مصادر تمويل ذاتية، فقد شكلت إدانة مبطنة للنخب الرسمية والمالية، التي يمكن أن تبذر المال على اليمين والشمال، لكنها لا تفكر إطلاقا في تمويل النشاط الثقافي. رسالة متعددة الأوجه يعد عبدالرزاق بوكبة، صاحب المبادرة الأولى في الجزائر، لإخراج الفعل الثقافي من صالونات المدن الكبرى، ودفعه لأخذ شكله الأفقي عبر مشروع المقهى الثقافي، الذي يسعى إلى استقطاب المبدعين بمختلف المجالات الفنية والأدبية عبر مدن وبلدات الجزائر العميقة، في فضاءات مقاهي محلية، في شكل من “الدمقرطة الثقافية” التي تهدد عرش النخب في بروجها العالية. وجاءت طاولة الخضار لتمويل المقهى الثقافي بمدينة برج بوعريريج (شرقي العاصمة بنحو 200 كلم)، كرسالة إبداعية مشفرة تستهدف الاتكال على النفس وتحويل الفعل الثقافي إلى منتج في حد ذاته، في خطوة لتحريره من التبعية لأصحاب المال ومن العوز المزمن الذي لازمه إلى حد الآن. وحول سؤال لـ”العرب”، عن دلالات ورمزية طاولة الخضار، التي قلبت أنظمة سياسية وأدخلت المنطقة العربية في حراك غير مسبوق، أكد بوكبة “نحن مشروع ثقافي مدني نابع من صميم الشارع الجزائري، وليس ثمرة للصالونات المتعالية أو المزاج المؤسساتي المغلق، الذي أثبت فشله وبات عبئا على المشهد الثقافي، حيث يلتهم المليارات من الخزينة العامة دون أن يقدم طائلا”. وأضاف “من هنا ندرك رمزية طاولة الخضار في المخيال الشعبي، فهي رمز لاعتماد المواطن على نفسه في تحصيل قوته اليومي، ثم إنّ طاولة الخضار في العشرية الأخيرة مثلت منصة لانقلابات رمزية في النسيج العربي، فما حدث خلال هذه العشرية، بغض النظر عن الثمار السلبية له كان انطلاقا من طاولة خضار”. وقال موضحا، إننا “نريد فعلا أن نحدث تغييرا جذريا في المشهد الثقافي الجزائري، بما يسمح له أن يكون مبرمجا على آليات وبرامج ورؤى جديدة، تتماشى مع الرهانات الثقافية التي تفرضها اللحظة، من ذلك أن تساهم الثقافة في تشكيل وعي مواطني جديد”. وزارة الثقافة الجزائرية لم يظهر لها أثر في المشهد الجزائري الجديد، بشكل يعطي انطباعا بالتغيير المنشود أما عن خلفيات الفكرة المثيرة والرسالة المبطنة، فقد شدد على أن مشروع المقهى الثقافي في مدينة برج بوعريريج، شرقي الجزائر العاصمة، انطلق في خريف عام 2018. كان ولا يزال مشروعا ثقافيا مدنيا تطوعا، يهدف إلى طرح مفهوم جديد للفعل الثقافي في علاقته بالجمهور، فاستطاع أن يحقق نتائج هائلة في هذا الباب، ولم يكن الناشطون فيه يعتمدون إلا على جيوبهم وبعض الإعانات من قبل دار الثقافة في المدينة، ثم توقف كل ذلك بسبب توقف نشاطاتهم الميدانية انسجاما مع الإجراءات الصحية التي فرضها وباء كورونا. الوضع الجديد دفع بوكبة، كما قال، إلى نقل نشاطاته إلى الأفق الافتراضي وإطلاق “المقهى الثقافي الافتراضي” الذي كان أول مبادرة ثقافية جزائرية تكيفت مع الوضع المستجد، ولأن شباب المقهى الثقافي هم عاطلون في معظمهم، وقد تأثروا بإكراهات الجائحة الصحية، فقد ارتأى أنه لا بد من إيجاد بديل لتوفير شيء من المال يضمن استمرار مشروعه الذي بات نموذجا يحتذى به وطنيا، فكان أن استقر الرأي على فتح طاولة لبيع الخضر والفواكه، على أن تعود مداخيلها كلها لتمويل المقهى الثقافي. ورغم أهمية المردودية الاقتصادية في الفعل الثقافي بالتوازي مع الدعم الحكومي، فإن اختلالات القطاع في الجزائر أكثر إيلاما، قياسا بافتقاد الفرد الجزائري لتقاليد شراء تذكرة مشاهدة مسرحية أو فيلم سينمائي إن وجد أصلا قاعة للعرض، والاعتماد الكلي على ما تجود به دوائر الدعم مما أثر على الجوانب الإبداعية وتقديم قراءات خارج ما يريده صاحب المال. واستهلك القطاع الثقافي في الجزائر أموالا طائلة، خاصة خلال سنوات الأريحية المالية (2000 – 2014)، حيث تفيد شهادات فاعلين وعارفين بشؤون القطاع بتسجيل انحرافات خطيرة في تسيير وتوزيع الريع الحكومي على استحقاقات ثقافية كإصدار كتب بمبالغ خيالية لا توجد إلا في وثائق المحاسبة، وأفلام لم تر النور أصلا، ومسرحيات ومهرجانات ضخمة.. وغير ذلك من الإخلالات. ويعتبر مشروع فيلم الأمير عبدالقادر، مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، نموذجا حيا عن سياسة الريع الحكومي والممارسات التي تحوم حول المشاريع الثقافية الكبرى، فرغم إطلاقه في العام 2013، إلا أنه لم يصور منه ولو مشهد واحد، رغم إنفاق ثلاثة أرباع موازنته (مليون و250 ألف دولار)، ولم يبق منه إلا الربع الرابع. وجاء إعلان وزير الثقافة السابق عزالدين ميهوبي، عن وقف إنجاز الفيلم المخلد لشخصية الرجل الذي وضع المعالم الأولى للدولة الجزائرية الحديثة، صادما للرأي العام، لأسباب مالية ومشاكل أخرى في النص المعتمد وشركة الإنتاج، بينما ضخت أموال ضخمة لإنجاز أعمال لم تبث أصلا أو لم تنجز، وإذا عرفت النور فإنها جاءت رديئة لا تحمل أي رسالة فنية أو جمالية. وزارة بلا تأثير وضع صاحب طاولة الخضار المثيرة، يده على الجرح من خلال التطرق إلى وجهة أموال الدعم الحكومي للقطاع الثقافي، حيث هيمنت المحاباة والرداءة على حساب الأعمال الجادة والمبدعة، الأمر الذي انعكس على نوعية وجودة الفعل الثقافي، خاصة مع تحوله إلى ظاهرة فلكلورية أو رسالة لتلميع صورة المؤسسة الممولة. وذكر بوكبة في هذا الشأن أنه “من حقنا أن نستفيد من مال الشعب ما دامت الاستفادة في المجال الثقافي متبناة من قوانين الجمهورية. هذا ليس عيبا، لكن ما دامت هذه الإعانات لا تذهب وفق مبدأ الكفاءات بل وفق الولاءات، وتخضع في توزيعها لأمزجة شخصية لهذا المسؤول أو ذاك، فلا ينبغي أن نخضع لهذا الواقع المتعسف، نحن نسعى إلى إيجاد موارد ولو كانت صغيرة لتمويل مشروعنا الذي نؤمن بجدواه ونرى أنه سيساهم فعلا في ترميم اللحظة الوطنية القائمة وبناء اللحظة القادمة”. وشدد على أنه ليس للنضال الوطني حدود أو خط أحمر، ما عدا خيانة الوطن نفسه ومن مظاهرها التكاسل عن أداء المهمات الثقافية اللازمة وإهمال المشاريع الثقافية الحقيقية التي تشكل بديلا حقيقيا. ورغم إلحاق ثلاثة كتاب دولة بوزارة الثقافة من أجل النهوض بالإنتاج السينماتوغرافي، والإنتاج الفكري والإبداعي، إلا أن وزارة الثقافة بقيادة أستاذة الفلسفة مليكة بن دودة، لم يظهر لها أثر في المشهد الجزائري الجديد، بشكل يعطي الانطباع حول مباشرة التغيير المنشود. واكتفت الوزارة بتوجيه منحة تقدر بنحو 400 دولار على المنتسبين إلى صندوق الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، من أجل مواجهة أعباء الجائحة الصحية، والموسم الأبيض الذي عاشه القطاع للسبب المذكور، واكتفت بإطلاق مجلة ثقافية أثارت الكثير من الجدل في الأوساط الثقافية. هذا الواقع هو الذي دفع عبدالرزاق بوكبة ومن معه إلى إطلاق هذه المبادرة، وفي هذا السياق ذكر في تصريحه لـ “العرب”، ردّا عن سؤال حول ردود الفعل الأولية، “هي فعل وليست رد فعل. إذا كانت هناك رسالة أردنا توجيهها من خلال هذه الخطوة ومن خلال خطوات ستعقبها، فهي رسالة للنشطاء المستقلين: لا تنتظروا شيئا من وزارة الثقافة أو من أيّ جهة حكومية. فهي مشغولة بأمور لا علاقة لها بتفعيل المشهد”.
مشاركة :