إنيو موريكوني .. هدية الموسيقى إلى السينما

  • 7/20/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

أنا إنيو موريكوني، أنا ميت، أعلنها لكل أصدقائي، الذين أحييهم بعاطفة كبيرة".  هكذا تبدأ الوصية التي تركها الموسيقار الراحل إنيو موريكوني، وقُرِأت في تأبينه. وفيها يَشكر أقرب أصدقائه، ويشير تحديداً إلى بيبوجيو وزوجته روبرتا، وبقية الأصدقاء الذين كانوا متواجدين دائماً في السنوات الأخيرة".  كتب أيضاً "لا أريد الإزعاج" لذا طالَب بجنازة خاصة. وخَصّص الأسطر الأخيرة لزوجته ماريا كاتبة الأغاني وأم أبنائه الأربعة التي تزوجها عام 1956، والتي قال بأن وداعها كان الأكثر إيلاماً له، وجَدّد لها حبه الإستثنائي الذي كان يربطهما معاً، مبدياً أسفه لأنه سيضطر الى تركها لوحدها. وُلِد الموسيقار الأسطورة إنيو موريكوني Ennio Morricone في روما، في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1928. وفي عام 1946 حصل على دبلوم بآلة البوق، وفي عام 1954 حصل على دبلوم بالتأليف الموسيقي من أكاديمية سانتا سيسيليا الوطنية للموسيقى تحت إشراف جيفريدو بتراسي. كتب أعماله الموسيقية الأولى نهاية الخمسينيات، لكن حياته المهنية كمؤلف موسيقى أفلام بدأت عام 1961 بفيلم فدرالي، ثم بدأت شهرته تتصاعد من خلال تعاونه مع المخرج سرجيو ليوني بأفلام الغرب الأميركي التي وصفت بالسباغيتي ويسترن، مثل.. من أجل حفنة من الدولارات (1964)، مقابل بعض الدولارات أكثر (1965)، الجيّد السيء والقبيح (1966)، ذات مرة في الغرب (1968)، حفنة من الديناميت (1971) وغيرها. كان موريكوني أول من جعل للموسيقى السينمائية والتصويرية عموماً، شخصية خاصة بها، فاستعارة الصوت في الأفلام التي وضع موسيقاها كانت على قدم المساواة مع إستعارة الصورة. في موسيقاه لم تعد الموسيقى شيئاً مضافاً إلى المشهد أثناء التصوير كما هو سائد، فقد جرب مع سرجيو ليوني عَكَس هذه العلاقة في أعمالهما المشتركة لفترة طويلة، وقد نجحا في ذلك الى حد بعيد. ما كان متعارف عليه قبلهما هو أن يقوم الموسيقي بتأليف الموسيقى على أساس المشهد، لكن في "ذات مرة في الغرب" قام موريكوني بعد قراءته للسيناريو بتخيل أحداثه وتأليف الموسيقى التي تناسبها، ثم تم تنسيق أداء الممثلين على أساس الموسيقى، لذا كان ليوني يصفه دائماً بأنه "كاتب سيناريو موسيقي". قام موريكوني بتأليف الموسيقى للسينما كما هي في الحياة، بسكونها وصخبها، وبأدق تفاصيلها، لذا علِقت في ذاكرة عشاق السينما والموسيقى، وسكنت قلوبهم بعد أن دخلتها بدون إستِئذان. لم تكن موسيقاه مجرد خلفية لأحداث الأفلام، بل جزءاً من صورتها العامة التي يتلقاها المشاهد، وأحيانا كانت تَرسم المشهد وتُصَوّره قبل الكاميرا، وقد لا نبالغ إذا قلنا أن حضورها كان يطغى في بعض الأحيان على الصورة، وأنها كانت تؤثر بتركيبة الفيلم ومدى تأثيره على المشاهد، بل وتُقرِّر نجاحه من فشله في أغلب الأحيان، لذا حَوّلت موسيقاه الكثير من الأفلام العادية الى أفلام خالدة. بالتالي لا يمكن الحديث عن تاريخ السينما على مدى الستين سنة الماضية، دون ذكر موريكوني ودوره وتأثيره فيها، وهذا ربما ما جعله الموسيقار السينمائي الوحيد الذي ظل اسمه مألوفاً لدى جمهور واسع من أجيال مجتمعية متعاقبة. صرير كرسي هزاز، كلب يئِن، رَشّة مياه على قبعة، ذبابة تطير بحرية، ثم تَعلَق في مسار فوهة مسدس، ليمتزج أزيزها مع صافرة القطار، هكذا يبدأ فيلم "ذات مرة في الغرب". سبع دقائق من الموسيقى التصويرية والمؤثرات الصوتية التي تساهم في التعبير عن توَتّر المشهد بطريقة سردية دون حاجة الممثلين للتفوه ولا حتى بكلمة واحدة، هذا جانب من عبقرية موريكوني الخلاقة في تصوير المشاهد موسيقياً. وإذا أردنا أن نأخذ فكرة عن جانب آخر من عبقريته، والمتمثل بأسلوبه في التأليف الموسيقي، فيكفي أن نستمع إلى موسيقاه لفيلم "عشيرة الصقليين" الذي أُنتِج عام 1969  بطولة آلان ديلون ولينو فنتورا وجان غابين، والتي إستَخدم فيها لحنا من قطعة موسيقية للتدريب على البيانو للموسيقار باخ، وأضاف له لحنين مختلفين من الموسيقى الشعبية الصقلية، الأول الذي في الواجهة يصف صراع العصابات، أما ما ترافقه من مأساة فيصفها اللحن الثاني الذي في الخلفية.  وكما أنه لا يمكن لفيلم أن يتناول ويصور حب السينما وعشقها كما فعل فيلم "سينما باراديسو"، فلا توجد موسيقى استطاعت أن تعكس هذا الحب وتعَبّر عن خلجاته وتفاعلاته داخل النفس الإنسانية، كما فعلت موسيقى موريكوني على مدار الفيلم، وفي نهايته تحديداً مع توتو بطل الفيلم وهو يشاهد كبيراً مقاطع كلاسيكيات السينما العالمية التي كان يعشقها صغيراً، والتي جمعها له الفريدو وتركها له قبل وفاته، ويحبس معها أنفاسه ويطلق لها دموعه دون كلمات.  وكما أنه لا يمكن لفيلم أن يتناول رغبة الإنسان بإكتشاف الكون كما فعل فيلم "رحلة الى المريخ"، فلا توجد موسيقى تعبر عن الصراع الإنساني داخل النفس البشرية بين حب الحياة وحب الإستكشاف، كما فعلت موسيقاه دون كلمات على مدار الفيلم، وفي نهايته تحديداً، مع إكتشاف بطله جيم حقيقة وجودنا على الأرض كما سردها له الكائن الفضائي، واختياره الذهاب معه إلى المجهول وهو يسترجع شريط ذكرياته الجميلة مع من يحبهم في لحظات. لم تكن بداية موريكوني كمؤلف موسيقي كلاسيكي درس في الكونسِرفتوار على أسُس الموسيقى الأوركسترالية والكورال سهلة في التعامل مع الصور والمشاهد السينمائية، لكن ما ساعده على تجاوز هذه العقبة هو أنه كان مولعاً بالسينما كوَلعه بالموسيقى، لذا وظّف دراسته الموسيقية لخدمة هذا الهدف، بل وساهم في إعادة الروح إلى الموسيقى الكلاسيكية والرومانتيكية التي كان نجمها قد بدأ بالأفول بداية ومنتصف القرن العشرين بسبب ظهور مدارس موسيقية حَداثية ابتعدت كثيراً عن الروح الكلاسيكية والرومانتيكية للموسيقى العالمية. لذا كان هذا هو المسار الذي سلكه مع أول تجاربه للمسرح وبعد ذلك بقليل للتلفزيون ثم السينما، فقد كان من المؤمنين بأن الموسيقى قد خلقت للحياة، بل وأنها أحد أهم أسرارها، وهكذا كانت موسيقاه بالفعل، معبرة عن الحياة بكل تفاصيلها، ونجح بالنهاية في الجمع بين عمله وشغفه ومهاراته، لذا خرجت موسيقاه للأفلام جميلة بألحانها، وعَملية في وقعِها على المشاهد.كان يرى بأن الموسيقى تنشأ من إرادة الملحن، فبرأيه لا يوجد إلهام يأتي من تلقاء نفسه، بل إن الدراسة والإنضباط والفضول هو الذي يصنع اللحن. قال ذات مرة: "هناك فكرة فقط، تبدأ صغيرة ويطورها الموسيقي على مكتبه، ثم تصبح هذه الفكرة الصغيرة شيئاً مهماً".  عُرِف عن موركوني بأنه كان مُخلصاً ووفياً لعمله. في بعض الأحيان كان كافياً بالنسبة إليه أن يصِف له مخرج العمل أو منتجه، سواء كان مسرحياً أو سينمائياً أو تفزيونياً، طبيعة مشروعه، ليبدأ هو بصياغة موسيقاه على البيانو بمكتب قصره في روما، والتي كان يسهر عليها طوال الليل في بعض الأحيان، وأحياناً كانت تأتيه الأفكار الموسيقية فجأة أثناء القيادة مثلاً، فكان ينعطف بسيارته جانباً ليكتب نوتاته على قصاصة ورق. لقد بقي يعمل ويُبدع بلا كلل حتى وهو في سن الشيخوخة، لذا رحل وترك لنا سِفراً موسيقياً قوامه أكثر من 400 عمل موسيقي، أكثرها للأفلام السينمائية الكلاسيكية. لقد ملأت شهرة موريكوني الآفاق جماهيرياً وأكاديمياً، لكن الأولى كانت غالباً ألمع من الثانية، إذ لم يأفل نجمه جماهيرياً على الإطلاق حتى وفاته، أما أكاديمياً فقد كان هنالك دائماً من ينتقد موريكوني ويصف موسيقاه بأنها تطبيقية وعملية، وكان رده على هؤلاء أن باخ وتيلمان وهاندل كانوا في زمانهم يؤلفون أيضاً موسيقى تطبيقية عملية تلائم أجواء عوالم الأمير ليوبولد ودوق فايمر ودوق شاندوس، كما يؤلف هو اليوم موسيقى تلائم أجواء عوالم بريان دي بالما ورومان بولانسكي وكوينتين ترانتينو. أما هوليوود التي كان له فضل لا ينسى، لم تكن هي نفسها تنكره، على أفلامها، بدليل أنها كانت تصفه بالمايسترو والأسطورة، حرمته من جائزتها لفترة طويلة، في أحد أكثر قرارات الأكاديمية غير المفهومة، إذ لم يحصل موريكوني على جائزة الأوسكار سوى عام 2007 عَن مُجمل أعماله في حياته، وقد قدمها له الممثل كلينت إيستوود وترجم خطاب قبوله وإستلامه لها من الإيطالية إلى الإنكليزية، لأنه لم ينس فضله وفضِل موسيقاه في شهرته. ثم حصل عليها للمرة الثانية عام 2016 عن فيلم "الحاقدون الثمانية".  في السنوات الأخيرة، قام بتقديم مؤلفاته الموسيقية السينمائية خلال جولات مكثفة في العديد من الدول الأوروبية. وقد كُنت محظوظاً بحضور إحدى حفلات جولته الأخيرة التي قام بها في بعض مدن ألمانيا ومنها برلين، والتي أسماها بالحفلات الوداعية، وشاهدت بعيني طوابير الناس التي كانت تنتظر خارجاً بالمئات في البلد القارص، وأنا منهم، بإنتظار التفتيش والدخول إلى القاعة التي كانت تعداد حضوروها بالآلاف، بعضهم من برلين، وبعضهم الآخر كما عرفت منهم، قَدِم من مدن ألمانية مجاورة للحصول على الفرصة، التي يبدو بأنه وجمهور محبيه كانوا يشعرون بأنها الأخيرة لمشاهدته وهو يقود عزف روائعه الموسيقية. كان يجلس على كرسي دَوّار بدلاً من قيادة الأوركسترا وقوفاً، ويقلب صفحات نوتات موسيقاه بدل استرجاعها من الذاكرة كما كان يفعل سابقاً، كما باتت حركات يديه أخف، لكن كل هذه الأمور بَدَت ثانوية أمام جلال حضوره وحضور موسيقاه. رغم أن الكثير من أساطين موسيقى القرن العشرين مثل هنري مانشيني ومونتوفاني ونينو روتا وموريس جار وميكلوس روزا سبقوا موريكوني في مجال التأليف الموسيقي للسينما، بعد أن ساروا على خطى الموسيقار الأسطورة رخمانينوف رائد المدرسة الموسيقية الرومانتيكية المتأخرة التي إعتمدت عليها السينما العالمية، وشكلت من خامتها اللحنية اللبنات الأولى لموسيقى أفلامها التصويرية، إلا أنه في لونه وإسلوبه وخصوصيته كموسيقار ليس له سلف ولا خلف. إنه فريد من نوعه ومدرسة بحد ذاته في موسيقاه، التي تميزها حال سماعك لها، وستتأكد من ذلك حينما تشاهد الـ 15000 شخص الذين كانوا يتجمهرون في برلين لحضور حفلته في يناير مِن العام الماضي، أو حينما تقرأ وتسمع عن مئات الآلاف الذين كانوا يحجون إلى جولاته الأوروبية سنوياً، فقط لأنه موريكوني!  قد يقول قائل "ربما هم ينجذبون إلى موسيقاه بسبب شهرة أفلامها"، ولكن غالباً العكس هو الصحيح، فأغلب هذه الأفلام علقت في ذاكرة مشاهديها بسبب موسيقاه، وأغلبهم لا يتخيلها بدونها، بل حينما يتذكرها تقفز إلى ذهنه أولاً موسيقاها ثم أحداثها، فليوني لن يكون ليوني بدون موريكوني.  قال موريكوني "إن الموسيقى التصويرية الجيدة لا يمكن أن تجعل الفيلم السيء جيداً، لكنها يمكن أن تعيد الى الذاكرة فيلماً منسياً" كما أثبتت موسيقاه ذلك بالفعل في الكثير من الأحيان.

مشاركة :