بدأت علاقتي بالطيور على الأرض، مع الديوك الرومية التي كانت أمي تربيها، وتتعامل معها بحنان ورقة متناهية.. تصحو أمي في الصباح، وحولها الأفرخ الصغيرة، فتتولى تغذيتها بالبيض المسلوق والجبنة البيضاء، والجبنة الرومي! أسابيع قليلة وتنتشر الديوك الجميلة التي تشبه الطواويس فتزداد حديقتنا جمالا يفوق الوصف.بعيد العصر، أسمع صوت اليمام، على شجرة الجازورين، وهو يردد بصوته الجميل ما كنا نعتقده أو نترجمه بعبارة «اعبدوا ربكم.. اعبدوا ربكم» وفي المساء، أجلس على سور الفراندة، فأستمع صوت الكروان «لك لك لك.. الملك لك لك لك»!وكما يحدث مع الطيور، وقعت بالأمس على صديق نبيل، صادق معظم الطيور، وعرف أنواعها وأشكالها وأصواتها، قبل أن أعرف منه إن معظم الطيور الموجودة في مصر، هي طيور مهاجرة، بعضها يعود من حيث أتى بالسلامة، وبعضها يتزاوج ويؤثر الإقامة!والحق أنني دهشت، وأنا أعرف من صديقي الجديد ابن الفيوم أحمد منصور، أن صديقنا وصديق كل الفلاحين «أبو قردان» ليس مصري الأصل! وكذا اليمام، الذي يأتي على ثلاثة أنواع.. البلدي الذي اندمج تمامًا وأصبح يردد «احمدوا ربكم» والإمري المتوج الذي أقام معه لكنه يشكو أحيانًا مرددًا «يا خيبتي.. يا خيبتي» والإمري ذو الدايرة حول الرقبة، الذي يحلو له الهجرة!ومن فرط حبه لمصر، مازال الكروان السنغالي يغني، شأنه في ذلك شأن كروان الماء مع الاختلاف التام في الشكل، ومع الفارق الكبير مع الفروج الغيطي الذي يكتسب شكله من لون الطبيعة التي يعيش فيها، وهو ينشط ليلا، مع ساعتين قبل الغروب، وساعة واحدة قبل الفجر!كان أحمد يواصل حديثه الممتع عن الفلامنجو، والبشروش، والبلاشون، والكوهية، والغر والصقر شاهين، والفرخة السلطاني، حين كنت أتأمل كيف هاجر الى مصر أيضًا علماء أفذاذ، وشعراء فطاحل، وفنانين مبدعين.. لقد مر كل هؤلاء أو مر الآباء، فاستهواهم جمال مصر، وآثروا البقاء!تذكرت الامام الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشيّ، ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، ومؤسس علم أصول الفقه، والذي ولد بفلسطين ودرس في مكة، ونشر العلم في مصر، قبل أن يموت فيها.تذكرت ابن خلدون، الذي ولد في تونس وشب وترعرع فيها وتخرّج من جامعة الزيتونة، ثم رحل إلى بسكرة وغرناطة وبجاية وتلمسان، قبل أن يتجه إلى مصر، وظلَّ بها ما يناهز ربع قرن، حيث تُوُفِّيَ بها عن عمر بلغ ستة وسبعين عامًا ودُفِنَ قرب باب النصر بشمال القاهرة.تذكرت الشاعر الفحل خليل مُطران «شاعر القطرين» اللبناني الذي عاش معظم حياته في مصر.. وبعد وفاة حافظ وشوقي أطلقوا عليه لقب «شاعر الأقطار العربية». تذكرت قصيدته الجميلة: أَلحُبُّ رُوحٌ أَنْتَ مَعناهُ.. وَالحُسنُ لَفْظٌ أَنتَ مَبْنَاهُ.. وَالأُنْسُ عهدٌ أنت جَنتهُ.. وَاللفظُ رَوضٌ أَنتَ مَغناهُ..تذكرت الأديب الكبير علي أحمد با كثير، الذي وصل، والتحق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً) وترجم مسرحية (روميو وجولييت) لشكسبير بالشعر المرسل، وبعدها ألف مسرحيته (أخناتون ونفرتيتي) بالشعر الحر.. ومع غزاره ابداعه حصل على جائزة الدولة التقديرية مناصفة مع نجيب محفوظ.تذكرت «بيرم التونسي» أشهر شعراء العامية المصرية، وكيف وصل به الانتماء مبكرًا حيث أهدى سيد درويش رائعته الخالدة: أنا المصري كريم العنصرين.. بنيت المجد بين الأهرمين.. جدودي أنشئوا العلم العجيب.. ومجرى النيل في الوادي الخصيب.تذكرت حصوله على جائزة الدولة التقديرية عن جهوده في الأدب والفن عام 1960، قبل أن يرحل عن الدنيا في مايو 1961.كنت آخذ من كل بستان زهرة، أو من كل سرب مهاجر يمامة، أو عصفور جميل، فتذكرت روزا اليوسف، التي عملت بالتمثيل ثم بالصحافة، وكيف أصدرت صحيفة «روز اليوسف» قبل ان تتزوج «محمد عبدالقدوس» وتنجب منه «إحسان عبد القدوس».وكنت أنهي المقال عن الطيور المهاجرة التي استقرت في مصر ووجدتني أغني مع أسمهان القادمة من جبل الدروز، وهي بالفعل تغرد: يا طيور غني حبي وانشدي وجدي وآمالى.. للي جنبي واللي شايف ما جرى لي..غنت الاطيار من فوق الأشجار أعذب الأشعار.. مالت الأغصان من هنا اأالحان والفؤاد ولهان.. والنسيم يسـري عليل يحمل الصوت الجميل.. والزهور فاحت بعطر الأماني.. والغدير ردد معاها الأغاني.. يا طيوووووور!
مشاركة :